الرصاص الأخرس

الرصاص الأخرس

01 يناير 2016

ناجي الجرف .. لوحة يارا نجم

+ الخط -

لا يشبه موت الشاب الصحفي، ناجي الجرف، أي موت سوري آخر، ليس لأن ناجي كان مميزاً عن غيره من شهداء الثورة السورية، فهو من الشباب السلميين الذين ارتأوا أن النضال بالكلمة والعمل المدني قد يكون أكثر جدوى ونفعاً لسورية وثورتها، ومثله كثيرون ممن رفضوا حمل السلاح لمعرفتهم الحقة بمآلاته، فظلوا على ارتباطهم الوثيق بالثورة، عبر العمل المدني وإلإعلامي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، أو في مخيمات السوريين في بلدان الجوار. لا يشبه موته أي موت آخر، ليس لأنه أيضاً كان محبوباً من كل من عرفه، أو اقترب منه. كثر هم  شهداء سورية الذين سبقوه، ميزتهم هذه الخصلة، لا يشبه موته أي موت آخر، لأنه قد يكون بداية سلسلة جديدة من الاغتيالات السياسية لنشطاء الثورة السورية بهذه الطريقة الصادمة، الاغتيال بمسدس كاتم للصوت، وهذه سابقة في الموت السوري المتعدد والمتنوع، من الرصاص العلني إلى القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، إلى التفجير، إلى التعذيب في المعتقلات حتى الموت، إلى الحرق والذبح والصلب والدفع من الأماكن العالية.

لم تبق طريقة للموت لم تجرّب بالسوريين فرادى وجماعات، إلا الاغتيال عبر كاتم الصوت، كان ناجي الجرف الضحية السورية الأولى لهذه الطريقة ذات الدلالة الواضحة، إذ لطالما تم استخدام كاتم الصوت في اغتيالات أصحاب الكلمة والصوت الحر الواضح، يتم قتل الصوت العلني برصاصة خرساء، وهذه أكثر الطرق جبناً ولؤماً في عمليات القتل، فالرصاصة خرساء، لا يمكنها الإعلان عن هوية مطلقها، والقاتل يحمي هويته بخرسها، بينما يتم الإعلان عن الضحية عبر خرس الرصاصة نفسه، الخرس الذي يوقف الصوت العلني للضحية، ويغرقه بالصمت الأبدي. ما من طريقة للقتل أكثر نذالة من هذه الطريقة. في الطرق الأخرى، يعلن القاتل عن هويته بوضوح موازٍ لوضوح ضحيته، هو يعلن عن حقه في القتل، ويدافع عنه بمبرّرات سياسية أو شرعية إلهية أو قانونية أو غيرها، ضحيته عدو معلن له، أداته في القتل علنية أيضاً، لها حيثياتها، لها ملامحها، كل القتلة في سورية علنيون ومعروفون، ولا يكتمون هوياتهم برصاص أخرس، ولا يخجلون من إجرامهم ولا يخفونه، بدءاً من النظام وحلفائه، مروراً بداعش وحلفائها ومن يشبهها، كلهم علنيو الإجرام، وكل أدوات إجرامهم علنية، لا شيء يخفونه، ولا شيء يخيفهم في علنيتهم.

من يقف وراء الرصاصة الخرساء التي اغتالت ناجي الجرف إذاً؟ وهل تبنّي صفحات تدعي الانتماء لداعش عملية الاغتيال يؤكد أن داعش وراءها فعلا؟ سؤال لن يكشف عن إجابته قريبا، وستظل الإجابة رهينة احتمالات عديدة، كما ظلت الإجابة عن سؤال من وراء اغتيال ناجي العلي الذي اغتيل بكاتم صوت أيضاً رهينة احتمالات عديدة، ولم تحسم حتى اليوم، على أن الأكثر إيلاماً من موت ناجي الجرف، والطريقة التي تم بها اغتياله هو مصير السوريين أنفسهم، مصير الشباب النشطاء الذين رفضوا الدخول في لعبة الموت الدائرة في سورية، ورفضوا، في الوقت نفسه، التخلي عن الثورة وحلم التغيير، وخرجوا من بلدهم، كي لا يتحولوا إلى قتلة أو قتلى، كي لا يساهموا في تكريس عبثية الموت في بلدهم، كي يتمكنوا من فضح القتلة، من دون أن تلاحقهم أسلحتهم، كي يختاروا حياتهم وحياة أبنائهم بأنفسهم، لا أن تفرض عليهم طرق حياة ما بقوة السلاح والسلطة. هؤلاء عاد إليهم الشعور بالخوف من التصفية، حتى وهم في الخارج. فجأة شعروا أنهم فعلاً في العراء، مكشوفين للموت المجهول، لا يضمن حياتهم أحد، ولا يحميهم شيء. من تابع ما كتبه السوريون، على صفحاتهم الافتراضية من رثاء لناجي الجرف، يلاحظ أنهم يرثون أنفسهم معه، يرثون مصائرهم وثورتهم وبلدهم. أعاد استشهاد ناجي إليهم الانتباه إلى ما آلت إليه حال الثورة، وحال أبنائها، وحّد موته سوريي الثورة المدنية الوطنية من جديد، لأنه ينتمي إليهم، إلى جيل الثورة الأول، الجيل الذي تم الفتك به على أيدي الجميع، كي يتم الفتك بالثورة، وحّدهم أيضاً لأنهم استشعروا الخوف من تصفية كل من يُذكّر أن ثمة ثورة مدنية وطنية حدثت في سورية. 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.