بين عيلان والبغدادي

بين عيلان والبغدادي

01 يناير 2016

أبو بكر البغدادي والطفل السوري الغريق عيلان

+ الخط -
سيكبر هؤلاء الأطفال، الموزّعون بين ملجأ وملجأ في شرقنا الأوسط المأساوي. سيكبرون على وقع مقتل رفاقهم بقنبلة أو قذيفة، أو على وقع توديعهم والدهم صباحاً، والذي لن يعود في المساء. سيكبرون بعيداً عن عالم الطفولة وبراءة الإنسانية فيها، وكأن العالم كان "كبيراً" لحظة ولادتهم، وشقياً إلى درجة منعهم من الشعور بطفولتهم. سيكبرون بعيداً عن منازلهم في مخيمات اللجوء والنزوح. هناك تُصبح الإنسانية وجهة نظر، في عالمنا المجرم. هذا العالم، الذي لا يستطيع الانتقام من زعيمٍ أو نظامٍ أو جيشٍ أو سياسيٍ، سوى بالاعتداء وقتل من ينتمي إلى جنسية هذا الزعيم أو النظام أو الجيش أو السياسي. ليست الجنسية مُراداً أو نعمة فحسب، نسعى إلى الحصول عليها من النرويج أو السويد أو كندا أو أستراليا، بل أنها لعنة أيضاً، إذا كنت تنتمي إلى إحدى الدول الشرق الأوسطية.
لا يتحقق "انتقام" ضد جيل الأطفال الأكثر معاناة في التاريخ المعاصر. هناك، يُمكن للمجرمين الثأر بإخراس ضحكة أطفالٍ وصناعة الأحياء منهم قنابل إرهابية موقوتة. سيكبر أطفال سورية والعراق واليمن وفلسطين وليبيا وغيرهم. يوماً ما سيكبرون. سيقرّرون أن هذه الحياة ليست بحياة، وتُستحق أن تؤخذ من الذين أخذوها منهم، أو يشبهونهم. لا تبرير في القتل، لكن هذا الذي يحصل وسيحصل. هؤلاء "مشاريع الإرهابيين الجدد"، ينتظروننا في كل مركبٍ لا يغرق في المتوسط، عابراً إلى أوروبا، وفي كل موجة اعتقالاتٍ غير مبرّرة في مخيمات اللجوء، وفي كل تصرف لا إنساني من مؤسساتٍ يُفترض أن تعطي دروساً في الإنسانية. ينتظروننا في كل عبور برّي يشعرون فيه بالإهانة والذلّ والعار. ينتظروننا في كل بقعة محتلّة، اعتُدي فيها على أمهاتهم وأخواتهم. ينتظروننا بين الأمس الحاقد والغد المُنتقم في حاضر دموي. ينتظروننا في كل زاوية من زوايا الطريق، لتحقيق ثأرهم. ألم يكن في وسعنا تجنّب هذا كله؟
هم ضحية أيضاً، والضحية تحتاج لضحية أخرى، كي تستقيم شريعة الطبيعة معها. لن يكون هؤلاء الأطفال رحماء. لا تطلب ممّن قتلت الحياة فيه أن يكون رحيماً لاحقاً، خصوصاً إذا ما كان يُدرك ألا ذنب له في كل ما يحصل. لقد صنعنا "فعلاً"، وعلينا أن نحصد "ردّة الفعل". نعم صنعنا، لأنه لا يُمكن لنا الشعور بعذاب حيوانٍ ما ونتعاطف معه على هذا الأساس، ونتجاهل بني جلدتنا، لأن "الأمر سياسي". في العرف، تسقط السياسة أمام الإنسانية، وفي المبدأ لا غاية تعلو الحياة الإنسانية. علينا استعادة العرف والمبدأ سريعاً، وإلا سنصبح مُحاطين بأطفال الأمس الناقمين علينا اليوم، نحن الذين أبعدنا أنفسنا عنهم.
سنستيقظ يوماً، ونجد أن هذا الشرّ أكبر من أن يُهزم. نعزو الأمر إلى أنظمةٍ أو تنظيمات متشددة، ونتجاهل أن جزءاً كبيراً من وجودية هذه الأنظمة والتنظيمات، واستمراريتها يعود إلينا، وينبع منّا. لن نفعل شيئاً، بل سنصرخ ونبكي مطالبين بـ"إنقاذنا" من الوحش الذي صنعناه. صنعناه بقراراتنا السخيفة في الأمم المتحدة، وفي فرزنا العنصري ـ الأقلوي، وفي "عشقنا" الزعيم الخارق والجيوش القادرة على شعبها فقط، لا على جيوش تشبهها. لن يصل هذا العالم إلى مكان. والنظام السائر فيه سيؤدي بحدّه الأدنى إلى حروبٍ صغيرة، وبحدّه الأقصى إلى حرب عالمية جديدة.
سيكبر ملايين الأطفال، مع "حق اختيار" أحد مسارين متناقضين: خير وشرّ. ويُمكن النظر إلى "حقّ الاختيار" هذا، وفقاً لأسوأ إرهاصات العام المنصرم، كقضية الطفل عيلان الكردي الذي وُجد جثة على شاطئ تركي، الصيف الماضي. كان من الممكن، من بين فرضيات عدة فيما لو بقي عيلان حياً، أن يكون ستيف جوبز آخر، كسيناريو جميل لطفل آت من شرقي المتوسط لينتصر في الغرب، أو أن يكون، في أسوأ السيناريوهات، أبو بكر البغدادي الجديد.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".