البحث عن "وطن آخر" غير إسرائيل

البحث عن "وطن آخر" غير إسرائيل

10 سبتمبر 2015
+ الخط -
"إنك لا تريد أن تكون هناك مطلقاً. إذن، ما العمل، أحد لم يسألك ما الذي جاء بك إلى هنا. لكن، عندما تكبر ويكون لك ولد، ويسألك هذا الولد: ماذا أفعل عندما أصبح شاباً؟ ستقول له: غادر هذه البلاد، ولا تسأل أحداً".
هذا مطلع لقصيدة للشاعر العبري، يعكوف جلعاد، تصور عمق انعدام الثقة في مستقبل "إسرائيل"، يقتبسه السياسي المخضرم يوسي ساريد، وزير التعليم الأسبق، في مستهل مقالة له في صحيفة هآرتس، بين يدي احتفالها بذكرى "استقلالها". ويفسر ساريد هذه النظرة السوداوية للمستقبل، حين يقول: بذلت القيادات التي توالت على إدارة شؤون الدولة كل الجهود الممكنة من أجل "جعل الأكاذيب مسلمات، ما جعل إسرائيل تقف عارية بعد عقود على إقامتها، حيث ليس أمامها إلا الحروب، إلى درجة أن شعار كل إسرائيلي: أنا وأنت والحرب المقبلة". ولا يختلف ساريد كثيراً في مخاوفه العميقة عمّا تشعر به نخب إسرائيلية، تنظر بتشاؤم عميق لمستقبل إسرائيل، فقد فاجأ الكاتب يارون لندن قراء صحيفة يديعوت أحرنوت، عندما أجرت معه مقابلةً، أكد فيها أنه، مثل إسرائيليين كثيرين، يتخوف من وطأة الخطر الدائم الذي يتهدد إسرائيل. لذا، هو يستعد للبحث عن "وطن آخر" غير إسرائيل. ويضيف لندن، وهو مقدم البرامج الحوارية البارز في قناة التلفزة العاشرة، أنه متشائم إزاء مستقبل إسرائيل، بل يقول إنه يبدو متفائلاً عندما يقول إنه يعطي إسرائيل فرصة 50% للبقاء، مُعيداً هذا الاستخلاص إلى "تجذر الشعور لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين باليأس من قدرة "الدولة" على البقاء".
وهو يعتقد أن المعضلة التي تواجهها إسرائيل تتمثل في أن قيادتها غير قادرة على إدارة الحرب بذكاء، ولا تملك الرؤية المستقبلية. ويعتبر لندن أن تعاطي إسرائيل الإشكالي مع قطاع غزة هو الذي أدى إلى اندلاع الحرب، صيف العام الماضي، التي مست بمعنويات إسرائيليين كثيرين.
هاتان عينتان فقط من الكلام الكثير الذي يدور في طبقة النخب الإسرائيلية، حول مستقبل إسرائيل، تعزّزها استطلاعات رأي، تجري بين حين وآخر، تكشف عن خطورة السؤال الوجودي الذي يقض مضاجع أصحاب الرؤية المستقبلية في هذا الكيان.
حسب استطلاع رأي، أجراه معهد القدس للصهيونية، ونشر نتائجه موقع "والا" العبري، قال نحو 50% فقط من الإسرائيليين إنهم يتوقعون بقاء إسرائيل، فيما أعرب واحد من بين كل ثلاثة شباب إسرائيليين عن رغبته بالهجرة، والعيش في الخارج، لأسباب عديدة، أبرزها غلاء المعيشة والأوضاع الأمنية وخيبة الأمل من السياسيين، وحول نظرة الإسرائلييين إلى المستقبل، قال 52% من الإسرائيليين إن دولتهم ستبقى قائمة بعد 67 عاما، بينما شكك البقية بذلك، ورأى 31% من الشباب الذين تتراوح أعماهرم بين 18 -29 عاما، أنها لن تستطيع البقاء.
وثمّة معطى آخر، يغفل عنه باحثون كثيرون، ويشهد تطورا دراماتيكيا، هو الجانب الديمغرافي. وهنا تحديداً، يمكن التأشير إلى المعطيات التالية، لنعرف الحال التي آلت إليها هذه المسألة التي تتكىء عليها الفكرة الصهيونية بمجملها:
- نسبة تكاثر فلسطينيي 48 (2,6%) لم تعد تقلق إسرائيل، بسبب ارتفاع حاد في نسبة تكاثر التيار الديني المتزمت "الحريديم" (حوالي 3,5%) والتيار الديني الصهيوني المسيطر على المستوطنين (3 %).
- ولكن نسبة تزايد المتدينين أمام واقع تكاثر العلمانيين بنسبة لا تتعدى 1,3%، يقلق الصهيونية، وحسب بحث في جامعة حيفا، فإنه في العام 2030 سيتحول المتدينون إلى 51% من إجمالي السكان، ما يعني 63% من إجمالي اليهود. وهنا، تخاف الصهيونية على جمهور العلمانيين، المنتج والمستهلك الأساسي، وحسب البحث، فإن غالبيته ستحاصر في "دولة تل أبيب" بمعنى منطقة تل أبيب الكبرى، وفي حال ضاق خناقها بسبب سطوة المتدينين، تتزايد أبواب الهجر.
- لم تقم الصهيونية لخدمة التيارات الدينية، بل مشروعاً اقتصادياً استعمارياً، رُكّب على فكرة "مملكة إسرائيل" التوراتية.
- خوف الصهيونية من الحريديم على وجه الخصوص من كونهم مجتمعاً مستهلكاً منغلقاً، غير عامل، غير منتج، بل يعتاش على المخصصات، ولا يخدم في جيش الاحتلال، ويشكل عبئاً على الميزانية.
- وإلى جانب هذا كله، لم تعد موجات الهجرة إلى إسرائيل تكفي الحاجة منها، للجم ارتفاع نسبة فلسطينيي 48 ولجم نسب المتدينين.
- ارتباطا بهذه القضية، هناك العامل الديمغرافي فلسطينياً، فالمناطق المركزية في وسط فلسطين 48 باتت على شفا انفجار سكاني، واختناقات مرورية دائمة، وكل مشاريع نشر اليهود شمالاً وجنوباً لم تنجح، فتلك المنطقة (الوسط) فيها ما هو أقرب لطبيعة الحياة الأوروبية والأميركية، وهي الموطن الأخير لعالم الشباب، بعدها ستكون الهجرة خيارهم.
في المحصلة، وعلى الرغم من بلوغ إسرائيل مستويات قياسية في الإنجاز الاقتصادي والعسكري، فإن هذا لم يمنع كاتباً مثل نحميا شترسلر (هآرتس - 21/4/2015) أن يقول في مقال "هل نحن مستقلون حقا؟" نشره قبل يومين من الاحتفال بعيد "الاستقلال الـ 67": يحتمل أننا هامون للولايات المتحدة، لأنها تستخدمنا مثل حاملة طائرات برية في الشرق الأوسط المجنون. لكنها يمكنها أن تتخلى عن هذه الخدمات وتواصل حياتها. نحن لا يمكننا أن
نعيش بدونها، وهذا كل الفرق الذي في العالم. وعليه، عندما سنحتفل، بعد غد، بيوم الاستقلال، سنعرف في بواطن قلوبنا أننا بعيدون جدا عن الاستقلال الحقيقي. وهنا تحديداً، وفي "مغزى الاستقلال"، يجمل الكاتب جدعون عيشت (يديعوت 21/4/2015) المسألة في مقالة "القوة ليست استقلالا"، فيكتب: لا يقاس الاستقلال الإسرائيلي بالناتج المحلي الخام، بالقبة الحديدية، بالعوزي ولا بالتكنولوجيا العليا. ولا بدبابة المركافا التي تعيش بمحرك أجنبي، كل الطائرات والغواصات هي من "هناك" (من الخارج) وإذا ما اغتاظ هذا الـ "هناك" منا، فإن كل التايتانيك الصهيوني سيصطدم بالجبل الجليدي. في أساس الأمر، وضع اليهود في بلاد إسرائيل لا يختلف كثيراً عن وضع اليهود في أوروبا... والسبب واحد: لم تتمكن الصهيونية، وهناك من يدعي أنها لم تستطع، أن تتدبر أمرها في الشرق الأوسط. نحن هنا نشعر، حقا، بالضبط مثل آبائنا في بولندا وفي اليمن. وهكذا، فإن كل جداول الاستقلال تنهار أمام إحساس الخوف من أن الصهيونية لم تجتث الواقع اليهودي.
ثمّة فرق، إذًا، بين أن تبني "دولة" وأن تبني "غيتو"، يعيش داخل جدار، سيكتمل تماما بالجدار الذي بدأت تقيمه حكومة نتنياهو على خطوط التماس مع الأردن، يوم الأحد الماضي، بعد الجدر التي أقامتها مع سورية ولبنان ومصر، وحتى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، للفصل بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين.