الثورة وقدرنا الأوروبي

الثورة وقدرنا الأوروبي

06 سبتمبر 2015
+ الخط -
وسط الصعود البديهي لأزمة اللاجئين السوريين حول العالم، يمكن التنبه إلى أن الأزمة ليست مجرد هروب بشر بأرواحهم من حرب طاحنة، وبحثهم عن لجوء يقيهم أهوال الحرب. إن التعاطي مع الأمر بهذا المنطق مضلل، ويتقصد التعامل مع قضية اللاجئين بمنطق إجرائي إغاثي وحسب. الحقيقة أن الأزمة تكشف الكثير من أحوال المنطقة العربية وقدرها الذي حاولت الشعوب تغييره. 
المستوى الأول للجوء من مناطق الحرب هو سعي إلى الوصول إلى "مكان آمن"، تتوفر فيه مقومات حياة رئيسية، وما نحن بصدده في الحالة السورية هو بحث اللاجئين عن أكثر من ذلك، هو سعيهم إلى تحقيق حلم يراود الغالبية العظمى من الشعوب العربية، من أقصاها إلى أقصاها، حلم الحصول على حياة لائقة من كل النواحي، ولحظة اللجوء السورية التي فقد فيها اللاجئون كل شيء، كانت مناسبة للبحث عن حل جذري.
هذه الشعوب المتعبة تريد أوروبا، لأن فيها حلا لجميع مشكلاتها الحياتية، لأن الحياة في أوروبا بمعايير الحياة التي حلموا ويحلمون بها. ليست القضية إنسانية ولا اقتصادية، ولا مجرد هروب من خطر أمني وحسب. وإلا فكيف نفهم هذا التباين الهائل في نوعيات حياة اللاجئين وظروفها، كيف نفهم العبور من تركيا ومقدونيا وألبانيا واليونان، سعياً إلى الدول في شمال القارة وغربها، إلى دول الأحلام. حتى أولئك اللاجئون الحاصلون على إقامات في دول عربية، كالخليج، يسعون هم أيضا لحلم الجنسية الأوروبية. وهذا سعي مستمر لم يتغير منذ عقود، عقود تحطيم الآمال في دول ما بعد الاستقلال العربية.
السعي إلى أوروبا و"دول العالم الأول" هو قدرنا المتعِب. ظروف العيش فيها تتكرر من دون ملل على ألسنة الشباب وفي أحلامهم، كانت وتظل هاجسنا، قبل الثورة وقبل كل تعقد المسارات، كان السوريون، مثل عربٍ كثيرين، يحلمون بالهجرة إلى أوروبا، ولا حاجة هنا لسوق إحصائيات، الأمر معروف بالبداهة.
الحقيقة الكاشفة، في هذا السياق، أن اللحظة الوحيدة لكسرنا هذا القدر الأوروبي هي لحظة الثورات العربية، هي الأسابيع والأشهر التي بدأت فيها الجماهير فاعلة مؤمنة بالتغيير في الدول العربية. يمكن الجزم أن هذه كانت اللحظة الوحيدة لانعكاس الهجرة الأزلية، بدأ كثيرون يعودون إلى دولهم العربية في تلك الأشهر الثمينة، لأول مرة تغيرت الوجهة وصارت نحو الجنوب، ولأول مرة خفت صوت اللاهجين بالهجرة/ الهروب، صارت الوجهة ساحات الوطن وميادينه، حيث يمكن أن نؤسس لحياة نريدها.
كانت الثورات الأمل الوحيد في أن نتخلص من عقدة أوروبا، أن نبني نظماً كما تريد الشعوب وتتمنى. حينها، بدأت الأوطان تصبح أوطانا. وما إن زحفت موجات الثورة المضادة والتطييف والاستقواء بالتوازنات الدولية لإبقاء الدكتاتوريات، وإجهاض أحلام المتعبين وتركهم وحيدين في مواجهة التقتيل، حينها عدنا إلى القدر الأوروبي، للحلم الوحيد بالخلاص من كل ما نعانيه. ولذلك، يريد السوريون ظروف حياة كالتي حلموا بها، ولو كان دونها الموت في البحار والغابات، لا يريدون العودة إلى دوامة الأنظمة العربية، خصوصاً بعد تفشي الأمل بقرب نهاية الاستبداد والقهر ثم تلاشيه. هذا الاقتراب من تحقيق الآمال، ثم فقدانها، جعل الردة عنها أكبر.
مجمل المعالجة السائدة لأزمة اللجوء السوري، منشغلة بجزء من الأزمة، هنالك من يريد حلا عملياً، وهناك من يريد الاتهام وتحميل المسؤولية وحسب، وهنالك من يفكّر بالاستثمار السياسي، وهناك من يريد الوصول إلى إدانات أخلاقية فقط. والثابت أن الموقف العملي والأخلاقي والبديهي لا يمكن الوصول إليه، إلا عبر العودة إلى الجماهير، حين خرجت لتطالب بالحرية، ولمن قتل الناس في الشوارع، لأنهم كانوا يحلمون بحياة أفضل. كل من أجهض تلك المسارات هو المسؤول عن الغرقى الذين هربوا من الموت على يد النظام السوري، ليموتوا في البحر بسببه.


2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين