الحق في المدينة: النظافة حد أدنى

الحق في المدينة: النظافة حد أدنى

27 سبتمبر 2015
+ الخط -
ربما فاجأت انتفاضة "طلعت ريحتكم" التي عرفتها بيروت وبقية المدن اللبنانية كثيرين منا، وهي التي اتخذت من مشكلة النفايات المنزلية المتراكمة سبباً مباشراً لكل تلك الاحتجاجات. وإذا قيل، قديماً، إن جبل الجليد يخفي ما تحته، وهو أخطر مما ظهر، فإنه يجوز لنا، قياساً على ذلك، أن نقول إن أكوام النفايات في بيروت، أو أي مدينة أخرى، تخفي جبالاً من الفضلات أخطر، هي الفساد والوصم الحضري واحتكار شأن المدينة بشكل مفرط، ينمي الزبونية السياسية.
كتب عالم الاجتماع الماركسي، هنري لوفيفر، في سبعينيات القرن الفارط، كتاباً بليغاً "الحق في المدينة" لم تفسد رائحة الأيديولوجيا مذاقه الخاص، لأنه كان دفاعاً عن حق البشر عموماً، والفرنسيين خصوصاً في المدينة، بعد أن بدأت أكبر عمليات تشويه عرفتها باريس، عاصمة الأنوار، وتحويل فضاءاتها العامة، وحتى الخاصة، إلى محتشدات استهلاك، استكمالاً لمشروع جورج هوسمان. وما زال ذلك التيار، إلى الآن، يشكل توجهاً راديكالياً، وهو مزيج من الفلسفة والسياسة والأيديولوجيا النضالية ضد أشكال استيلاء الرأسمال المتوحش على المدينة، وتحويلها إلى محتشدات للاستهلاك.
كانت أحداث "احتلال وول ستريت" ولندن وغيرها، في السنتين الفارطتين، مواصلة متعثرة لهذا النبض الخافت التي ينتفض على ما يجري في مدينة ناطحات السحاب والمراكز التجارية وفضاءات الألعاب العملاقة.
في وطننا العربي، كانت انتفاضات المواطنين وثوراتهم تتم، غالباً، تحت لافتاتٍ سياسية، لا تدين المدينة بشكل غير مباشر، فلم ترفع شعارات "الحق في المدينة"، أو حتى مجرد مشتقاتها، على غرار السكن اللائق والنظافة والبيئة السليمة.
شكلت المدينة في الوطن العربي، في السنوات الأخيرة، حاضنة لمختلف الاحتجاجات السياسية،
واحتضنت جل فعاليات الثورات العربية، بساحاتها وشوارعها، على الرغم من أن الأرياف والبوادي هي الأكثر بؤساً وتهميشاً في الوطن العربي. ولكن، كانت جل تلك الاحتجاجات سياسية في المقام الأول، تطرح شعارات لها صلة مباشرة بقضايا الفساد والظلم وانعدام الحريات. ولكن، مع انتفاضة البيئة في بيروت، وحملة "نظف وراءك" التي انطلقت، بمناسبة عيد الأضحى في الضفة الغربية، بمبادرة مدنية مواطنية، وقبلها انتفاضة النفايات في مدينة جربة التونسية، خيل إلينا أننا نلج عتبة أخرى من الانتفاضات "المواطنية الاجتماعية ".
مثلت المدن العربية، بما فيها مدن الخليج التي أجاد الروائي عبد الرحمن منيف وصفها في خماسيته الرائعة مدن الملح، مجالاً لكل أنواع التميز الحضري بين أحياء متخمة وأحياء منهكة، تذكّرنا بين حين وآخر بالأحياء القصديرية، وهي النظرية التي جادت بها مدن العرب، وأساساً الدار البيضاء في ثلاثينيات القرن الفارط، على العلوم الاجتماعية، حتى أصبحت استعارة ومقاربة في فهم حالة التهميش التي تعاني منها أحياء عديدة من عواصمنا العربية.
علينا ألا نخجل، حين تكون "الزبالة" والصرف الصحي والمناطق الخضراء عنواناً لانتفاضاتنا واحتجاجاتنا، وهي ليست أقل نبلاً من حرية التعبير والتنظيم والتظاهر، لسببين مهمين، أولهما أن المطلبية ضرورية في ترسيخ المواطنة، ولا يمكن أن يتدرب الناس على إتقان درسها من دون أن يدركوا حقوق المدينة التي عليهم التمتع بها. أما ثانيهما فهو أن صيغ المشاركة والتنشئة على تلك القيم تبدأ من الخدمات التي تعطي معنى لعيشنا المشترك والمصير الموحد لجماعةٍ بشريةٍ ما.
في حالاتٍ كثيرة، لم تفضِ ثورات الربيع العربي، حتى في حالتها الناجحة نسبياً، إلى تغير
ملموس في وضع المدينة، وربما تدهور الوضع البيئي بشكل غير مسبوق. ضعف السلطة وغياب تراث المشاركة الجماعية جعل منسوب الفردانية يرتفع، مصحوباً بأشكال فجة من الانقضاض على الملك العام والاستيلاء عليه. ربما لن نشهد مستقبلاً مجرد انتفاضات سياسية، بل قد نشهد موجة أخرى من الانتفاضات البيئية التي لا ترى في المدينة مكاناً للسكنى والعمل الذي يجمع كتلاً بشرية فاقدة الشرط الضروري، وهو رابط العيش المشترك. لن تكون تلك التحركات مجرد مطالب تحسين الخدمات التي يفترض أن تقدمها مدن القرن الواحد والعشرين لسكانها، من قبيل النظافة والصرف الصحي والمناطق الخضراء، ومن قبيل المساهمة في إدارة شأن المدينة، بما يمنح مشاركة سياسية واسعة للمواطنين.
ربما كان فضل الثورات العربية، خصوصاً النقل الإعلامي الذي غطى جزءاً كبيراً من فعالياتها، كشف الحالة المزرية التي عليها أحياء تلك المدن: القاهرة، دمشق، تونس، الدار البيضاء، طرابلس، صنعاء، عدن، وغيرها. أحياء كأنها تنتمي إلى العصور الوسطى، تعشش فيها خلايا الإرهاب وتجار المخدرات وشبكات الجريمة والبلطجة، كما يقول أشقاؤنا المصريون. لن نصل بعد إلى حالة أحياء مدن أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن الفارط، حيث شكلت تلك المدن قلاعاً عصية على الدولة المركزية، تديرها بشكل شبه مطلق عصابات محلية. ولكن، من غير المستبعد، مع تعثر مسارات الربيع العربي، في أكثر من بلد عربي، أن نذهب إلى ما يشبه تلك الحالة، حيث تغدو مدننا قلاعاً لأمراء الحرب.
كيف يمكن أن تستعيد مدننا رسالتها المفترضة؟ لا يمكن أن نقدم وصفة سحرية. ولكن، حين نعمق أشكال المشاركة الجماعية، ونفتح للناس سبل إدارة المدينة بشكل جماعي، حتى في حدها الأدنى، نكون، آنذاك، قد خطونا الخطوة الأولى، وفي الاتجاه الصحيح.
في الأصل، كانت المدينة حاضنة لديموقراطية الشعب، وحكمة الفلاسفة، وحتى وحي الأنبياء.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.