الاختبار المرعب

الاختبار المرعب

26 سبتمبر 2015
+ الخط -

من يتذكّر الصورة الشهيرة  للشهيد الطفل محمد الدرة الذي قتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في انتفاضة الأقصى عام 2000، فسينتبه إلى مفارقةٍ أثارت بعض الجدل وقتها في الصحافة العربية. الأب يجلس وراء البرميل الحديدي وخلفه ولده محمد، غير محمي بشيء سوى يد والده اليمنى تمسك به. يقول المنطق إنه كان على الوالد أن يضع ولده بينه وبين البرميل الذي كان سيحمي الجسد الصغير من الرصاص المواجه. كان جسد الوالد سيفعل الشيء نفسه، وهو يضم الولد من الخلف. ما حدث هو العكس. احتمى الوالد بالبرميل، وتعرض جسد الطفل المكشوف للرصاص. مات الطفل وعاش الوالد. لم تكن الجريمة لتكون أقل فداحةً، لو أن الوالد سقط ميتاً بالرصاص أمام عيني طفله، لكنها حتماً لم تكن لتترك ذلك الأثر الهائل لدى الرأي العام العالمي، ولما أثارت الانتباه نفسه. بداهة، لم يفكّر الوالد لحظتها بهذا كله، كان يريد الاحتماء من الرصاص، من الموت، فعل ما فعل بتلقائية غريزية طبيعية، غريزة البقاء والحفاظ على الحياة.

من يتابع  أيضاً المقالات والقصص التي يروي فيها الناجون من الغرق في رحلة الموت البحري السوري المرعبة قصصهم، يلاحظ شيئاً مشابها، يتحدث آباء وأمهات كثيرون، ناجون، عن غرق أبنائهم وأطفالهم أمام أعينهم، يتحدثون كيف ابتلع البحر أطفالهم، كيف غابت أجسادهم الصغيرة عن أعينهم. يتحدثون بعد أن نجوا ووصلوا إلى شواطئ الأمان أن الزورق انقلب، وكان الأطفال يصرخون وسط الماء والظلام. يروون اللحظات المرعبة بتفاصيلها. ثمّة من غرقت عائلاتهم بأكملها، ستقرأ قصص العذاب هذه، أنت الوالد أو الوالدة، وستتخيل نفسك في ذلك الزورق، وتتخيل أولادك يغرقون أمامك، فتصاب بقشعريرة الخوف، وربما يتبدل لون جلدك إلى لون الموت الشاحب. كيف يمكن أن يموت ولدي أمام عيني بهذه الطريقة، ويختفي جسده عن ناظري إلى الأبد، وأتابع رحلتي من دون أن أموت معه؟ ستقول وأنت تقرأ: لو كنت مكان هؤلاء لمت مع أولادي، لرميت نفسي في الماء خلفهم، لن تكون مبالغاً في إحساسك لحظتها. تقول ما تقوله صادقاً تماماً. أنت تبعد عن ذهنك فكرة موت ابنك تماما، فكيف موته بهذه الطريقة وأمام ناظريك؟ غير أن ما تقوله هو منطوق وعيك المتشكل عبر نشاط اجتماعي تراكمي طويل.

 في لحظات الخوف من الموت، يغيب الوعي تماماً، يظهر اللاوعي الأول، المتشكل من الغرائز، غريزة البقاء أولى هذه الغرائز، وهي المسير لسلوك الكائنات الحية. لا تسأل الحيوانات أسئلة كهذه، لا ذاكرة لديها لتراكم وعياً ما، سلوكها نابع من غريزتها فقط، تنجب أولادها وتدافع عنهم حتى لحظة قدرتهم على البحث عن طعامهم منفردين، ثم تنساهم تماماً. سلوك البشر مزيج من الغرائز والوعي الاجتماعي. ثمّة مسؤولية وتعلق عاطفي. ثمّة ذاكرة راكمت تاريخاً طويلاً من السلوك البشري الاجتماعي، غير أنه، في لحظة اقتراب الموت ومواجهته، ينمحي كل ما تراكم بالذاكرة، تظهر (الأنا) عاريةً من كل أغلفة الذاكرة، ( الأنا) التي تدافع عن وجودها هي، عن بقائها.

لهذا، ربما، نادراً ما نسمع عن أم أو أب ماتوا بعد موت واحد أو أكثر من أبنائهم حزناً وقهراً. لهذا أيضا، لو كنت أنا أو أنت في الزورق الذي كان عليه الناجي من الغرق والفاقد أطفاله، لفعلنا الشيء نفسه ربما. كنا أكملنا رحلتنا، محاولين النجاة بحياتنا، ثم روينا مأساة موت أبنائنا، وربما فقدنا عقولنا بعض الوقت، وربما دخلنا في كآبة اليأس من الحياة بعد فقد الأحبة، لكننا نجونا بحياتنا، غريزة البقاء لدينا دافعت عن ذاتها ضد الموت. الفارق فقط أن موت أطفالنا، بهذه الفجائعية، سيثير الانتباه، لأننا نحكي عنه، أو نشاهده بكامل وعينا، أما موتنا نحن فلن يعني الكثير لأحد. يموت كثيرون مثلنا يوميا، بأسباب مختلفة. موت الأطفال نراه بذاكرتنا الاجتماعية الواعية الرافضة فكرة فقد من هم جزء منا. بالتأكيد، التفكير بهذا كله مرعب، وربما أول ما يخطر في البال لحظة التفكير به، أننا لا نريد الدخول في هذا الاختبار الكابوسي.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.