كامل الحسين.. وطني أم عميل؟

كامل الحسين.. وطني أم عميل؟

18 سبتمبر 2015

كامل الحسين..سيرة مثيرة ومقتل غامض في 1949 (أنس عوض)

+ الخط -
كامل الحسين اليوسف هو زعيم مرموق لعشيرة الغوارنة في سهل الحولة (الغور الشمالي). أصل عائلته من أم الفحم، قبل أن تنتقل العائلة إلى بلدة الخالصة القريبة من الحدود اللبنانية. والده حسين اليوسف قُتل في ظروف غامضة في سنة 1917. أما ابنه كامل الذي خلفه في زعامة العشيرة فدرس في الجامعة الأميركية في بيروت، وأتقن الإنجليزية والتركية، وتزوج لمياء ابنة إبراهيم شركس، من شراكسة صفد وكبار مالكي الأراضي فيها. ثم لم يلبث أن طلقها، وتزوج امرأة من آل شهاب، وأقام معها في شارع العابد في دمشق. وفي ما بعد، تزوج جولييت خوري (جوليا) من مرجعيون، ولهذه المرأة حكاية يختلط فيها التجسس بالمال والجنس والقتل والغموض معاً. وقصة اغتيال كامل الحسين مشهورة جداً، وإن لم يُكشف النقاب بصورة قاطعة عن دوافعها الحقيقية. وثمّة في هذا الميدان روايات كثيرة، تدور كلها على بيوع الأرض في فلسطين، وعلى علاقة الرئيس السوري حسني الزعيم (1897-1949) برئيس وزراء إسرائيل موشي شاريت (1894-1965)، وغير ذلك من الحكايات والخبريات. ومهما يكن أمر هذه الحكايات، فإن من المؤكد أن الاستخبارات السورية في سنة 1949 أرادت اختطاف كامل الحسين إلى دمشق، وأرسلت كميناً لهذه الغاية إلى جسر الحاصباني في جنوب لبنان، قريباً من بلدة الغجر السورية. ولمّا رفض الحسين الصعود إلى السيارة العسكرية التي كانت بإمرة النقيب أكرم طبارة، وقاوم مختطفيه، بادر الراعي متعب شتيوي، وهو من المجموعة الخاطفة، إلى إطلاق النار، فقُتل كامل الحسين ومرافقه عوض يوسف سعيد وسائق سيارته أحمد الحلبي. ودفن القتيل في مقبرة بلدة الخيام اللبنانية الجنوبية. 

غرام وانتقام
انتهت قصة كامل الحسين بمصرعه، لكن قصة زوجته، جولييت خوري، بدأت على الفور. فقد تزوجت شقيقه محمود، وأنجبت له ابنة تدعى آمال اليوسف التي نُشر كتاب باسمها عنوانه "كامل الحسين: زعيم الحولة والجيرة" (بيروت: دار الفارابي، 2012). وسَرَت شبهات كثيرة في شأن تردد جولييت خوري على إسرائيل في خمسينيات القرن المنصرم، وكانت تتذرع بأن زوجها كامل الحسين ترك كنزاً من الليرات الذهبية مطموراً في مكان ما في بلدة الخالصة، وأنها تحاول العثور عليه. وكان لها منزل في بيروت، يعج بجميع صنوف البشر من سياسيين متنفذّين وسماسرة أراضٍ واستخبارات ومغامرين وقانصي متعة وسهر. وقد فضح ذلك كله الأديب سعيد تقي الدين، حين كان على رأس جمعية "كل مواطن خفير" التي كانت غايتها مطاردة الجواسيس، وكل من يتعامل مع إسرائيل من أفراد ومؤسسات، وتقديم المعلومات عن ذلك إلى السلطات اللبنانية والسورية. ولسوء حظ جولييت خوري، ذات الجمال المثير والمغوي، أنها تعرفت إلى شاب فلسطيني (أمه يهودية)، يدعى سمير مسلّم، كان يعمل في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، وفصل من عمله لاكتشافه سرقات من مستودعات التموين، ونَقَل ذلك إلى سعيد تقي الدين الذي كان مشرفاً عليه في الحزب السوري القومي الاجتماعي. واضطر الشاب سمير مسلّم، بعد فصله من عمله، إلى التدريس في إحدى مدارس السبتيين، ليكتشف أن إحدى المدرسات يهودية صهيونية، إذ كانت تداوم على عزف نشيد "هاتكفا"، أي الأمل، على البيانو، وهو نشيد إسرائيل. ونقل هذه المعلومة أيضاً إلى سعيد تقي الدين. وكان سمير مسلّم أحد عشاق جولييت خوري، ويديم السهر في منزلها، وينقل
تفصيلات تلك السهرات إلى سعيد تقي الدين الذي تسلم منه تقارير مكتوبة وشرائط مسجلة بصوته عن سماسرة بيع اليهود أراضي الفلسطينيين، وتقريراً عن جاسوس شيوعي في بيروت، وآخر عن اتصالاتٍ كان يجريها الإعلامي السوري المشهور، أحمد عسة، بجواسيس يهود في بيروت. ولما افتضح أمر سمير مسلّم حاولت خوري استمالته، كي لا يكشف المزيد من أسرارها. وفي النهاية، قتلته بالسم في أبريل/نيسان 1955، وهذا ما باح به لصديقه إميل شختورة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت قبيل وفاته، وأخبره أنه أكل كبة وورق عنب، واحتسى الويسكي في منزل جوليا خوري، ولم يلبث أن شعر بأوجاع تقطّع أمعاءه، فنقل إلى المستشفى. أما سعيد تقي الدين فكتب عن الحادثة مقالات عدة جمعها، في ما بعد، جان دايه، وأصدرها في كتاب "كل مواطن خفير" (بيروت، دار فجر النهضة، 2000). أما جوليا خوري فلم تثبت عليها تهمة القتل والعمالة، لكنها اعتصمت بالعزلة منذ ذلك الوقت، وعاشت أرملة ومطلقة، إذ لم يطل الأمر كثيراً حتى انفصلت عن زوجها محمود حسين اليوسف.

غسيل التاريخ
حاولت آمال محمود اليوسف في الكتاب الذي نشر باسمها، "كامل الحسين: زعيم الحولة والجيرة"، تخليص عمها والزوج السابق لأمها من العار الذي لحق به، وتنظيف اسمه من تهمة العمالة، فراحت تصفه بـ"الشهيد"، وتنقل عن بعض الذين عرفوه مدائح عن سخائه، غير أن هذه المرويات، في معظمها، شفهية، ومصدرها أنصار كامل الحسين، أمثال كامل الزغموت وعزيز الصالح، وهي روايات لا يمكن قبولها، لانحيازها وعدم نزاهتها العلمية. فتاريخ كامل الحسين يهزأ من هذه المحاولات الساذجة في تزييف الوقائع والحوادث وتبييض صفحته. وكان اسمه يتردد باستمرار كأحد المتعاونين مع الهاغاناه في بيوع الأراضي إلى جانب أحمد الصالح، أحد شيوخ الحولة. ففي كتاب "مذكرات سمسار أراضٍ صهيوني" (يوسف فايتس، ترجمة إلياس شوفاني، دمشق: دار الحصاد، 2010) وفي كتاب "جيش الظل: المتعاونون الفلسطينيون مع الصهيونية" (هيلل كوهين، ترجمة هالة العوري، بيروت: دار بيسان،
2015)، يتردد اسم كامل الحسين كثيراً، سمسار أراضٍ لمصلحة الوكالة اليهودية، أو متعاوناً مع استخبارات الهاغاناه، فضلاً عن مصادر عربية كثيرة جداً. ويذكر هيلل كوهين أن كامل الحسين عقد، في صيف 1940، تحالفاً مع الوكالة اليهودية، ينص على "السير يداً بيد مع اليهود" ضد أنصار المفتي الحاج أمين الحسيني، والمقاتلين العرب الذين يتسللون إلى فلسطين، ويهاجمون المستوطنات اليهودية. وكان من بين أعضاء هذا التحالف محمد الزيناتي (من شيوخ قبيلة الغز) وفخري عبدالهادي (من عرابة جنين) ومحمود الماضي (من إجزم) ومدحت أبو هنطش (من قاقون). وقد اغتيل محمد الزيناتي في سنة 1946 جرّاء عمالته، وإصراره على المضي في بيع الأراضي. وفي مارس/آذار 1947، ظهر اسم كامل الحسين شريكاً في اغتيال فريد فخر الدين، وهو من أنصار الحاج أمين الحسيني، ثأراً لاغتيال محمد الزيناتي. والمشهور أن كامل الحسين سلّم مفتاح مبنى الشرطة في بلدة الخالصة إلى صديقه بنيامين شابيرا في سنة 1948، فسارعت الهاغاناه إلى الاستيلاء عليه سالماً.

أَوطني هو؟
ما زال مؤرخو القضية الفلسطينية يسيرون، في كتاباتهم، على خط مستقيم واحد، لا انعطافات فيه ولا تساؤلات. ومن العلامات التي لم تتزحزح، في هذا الخط، توقيع اتفاقية سايكس-بيكو في سنة 1916، ثم إعلان بلفور في سنة 1917، فالانتداب البريطاني والهجرة اليهودية والثورات الفلسطينية المتعاقبة حتى الثورة الكبرى في سنة 1936، علاوة على ظاهرة الحاج
أمين الحسيني وتقسيم فلسطين وحرب 1948، وانتهاء بقيام دولة إسرائيل. لكن ثمة تاريخاً موازياً قلما ظهر في الروايات المكتوبة عن نكبة 1948، وانزوى في إطار التاريخ الشفوي، مثل روايات العارفين بخفايا العمالة وبيوع الأرض والسمسرة والتجسس وغيرها. وقلما بحث المؤرخون عن الأسباب الجوهرية لاندفاع المعارضة الفلسطينية المنافسة لتيار الحاج أمين الحسيني إلى التعاون مع الحركة الصهيونية، وكيف ساهمت المعارضة في إمداد الهاغاناه بمعلومات دقيقة عن المجتمع الفلسطيني وصراعاته العائلية وتشققاته المحلية. ولم يعتبر "المعارضون" أنفسهم خونة، حين عقدوا اتفاقات كثيرة مع الهاغاناه، وباعوهم الأراضي، وقدموا إليهم معلوماتٍ مكّنتهم من اختراق صفوف الفلسطينيين، بل اعتقدوا أنهم وطنيون، يعارضون مغامرات مفتي فلسطين في قتال البريطانيين واليهود معاً، ورأوا أن إنقاذ فلسطين إنما يكون بالتعاون مع البريطانيين والملك عبدالله، وبالتفاهم مع اليهود. وهذه الرؤية هي التي جعلت فخري النشاشيبي وفخري عبدالهادي يُقدمان على تأليف "وحدات السلام"، للوقوف في وجه أنصار الحاج أمين الداعين إلى قتال الصهيونيين.
كان كامل الحسين من أنصار الملك عبدالله، ومن جماعة فخري النشاشيبي. والمعروف أنه أسس فرعاً لجمعية الشبان العرب في صفد في 21/8/1933. وكان يرأس الجمعية يعقوب الغصين أحد بائعي الأراضي من اليهود. وقصة بيع الأراضي من القصص المخزية في التاريخ الفلسطيني الحديث. وظلت الرواية الفلسطينية التقليدية تكرّر أن مَن باع الأراضي هم بعض العائلات اللبنانية والسورية، أمثال سلام وقباني وسرسق وتويني وتيان واليوسف والجزائرلي وغيرها. لكن الإيغال في هذه الدروب المتشابكة يؤدي بنا إلى فضائح مدوية وصادمة. وعندما نشر كينيت ستاين وثيقة بيوع الأراضي في فلسطين في كتابه "مسألة الأرض في فلسطين 1917-1939" (بالإنكليزية، لندن 1984)، وذكر فيها شخصيات فلسطينية لامعة في الحركة الوطنية الفلسطينية ممن باعوا اليهود بعض أراضيهم، ذهل كثيرون، ولم يتمكّن أحد من تفنيد هذه الوثيقة التي عرضت، بالتواريخ والأمكنة والمساحات وأرقام عقود البيع وأرقام التسجيل في الطابو، أسماء البائعين أمثال موسى العلمي وهاشم أبو خضرا وعمر البيطار وسليم بسيسو وطاهر حنون وفهمي الحسيني وطاهر محمد الحسيني وموسى كاظم الحسيني وراغب الإمام وصبحي الخضرا ومعين الماضي ومغنم مغنم وألفرد روك وفؤاد السعد وإبراهيم صهيون وعاصم السعيد ورشاد الشوا وشكري التاجي (الفاروقي) وأسعد الشقيري ومحمد صالح شبل وصدقي الطبري وعوني عبد الهادي، وغيرهم كثيرون جداً.
حين نشر نمر الهواري زعيم منظمة النجادة الفلسطينية كتابه "النكبة" في إسرائيل، وروى فيه تاريخه الشقي في التعاون مع الصهيونيين، صُدم كثيرون، مع أن نمر الهواري وقبله موسى هديب (مؤسس حزب الزراع، والذي اغتيل في سنة 1925) كانا معروفين في هذه الجناية. وفي ما بعد، كشفت وثائق محفوظة في الأرشيف الصهيوني أن حسن سلامة أحد قادة الحرب في سنة 1948 كان اشترى أسلحة لمصلحة الهاغاناه في سنة 1936، وأن سامي طه، شهيد الحركة العمالية الفلسطينية الذي اغتيل في 11/9/1947، تعاون مع دافيد هاكوهين، وساعده في ذلك حنا عصفور، لحماية العمال اليهود في محاجر شركة "نيتشر" في حيفا سنة 1936، وأن أرملة سامي طه فرّت، مع ابنها، إلى دمشق غداة اغتيال زوجها، وظل هاكوهين يرسل إليها راتباً شهرياً إلى دمشق من صندوق الرعاية التابع لشركة "سوليل بونيه".
من المؤكد أن كامل الحسين قُتل من دون تخطيط، وجاء مقتله من غير قصد؛ فالمخابرات السورية آنذاك لم تكن تريد اغتياله، بل اعتقاله. لكن الردى كان أسرع. وبذلك الموت ذهبت أسرار كثيرة مع هذا الرجل الوسيم الذي تزوج امرأة جميلة، امتلكت بدورها أسراراً مثيرة عن تلك الحقبة. وكان كامل الحسين سمساراً للوكالة اليهودية بلا ريب، ومتعاوناً مع الهاغاناه بلا شك ، ومعادياً للتيار الوطني الفلسطيني بزعامة الحاج أمين الحسيني بكل تأكيد. وغداة موته، تقاطرت اللعنات عليه من معظم الفلسطينيين، ولم يحزن عليه إلا قسم من أبناء عشيرته وعائلته وبعض عارفيه. غير أن انكشاف قصص لا تحصى عن بيوع الأرض وأسماء مَن باعها، وهي أسماء لشخصيات مرموقة في الحركة الوطنية الفلسطينية، يجعل نصيب كامل الحسين في السمسرة على أراضي الفلسطينيين، قبيل النكبة، ضئيلاً في ميزان "الحقائق" الصادمة، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في الوقائع والمرويات، وتفنيد الوثائق المهينة، ولا سيما وثائق الأرشيف الصهيوني التي تحوم شبهات كثيرة في مضمونها، ثم وضع ذلك كله في سياقه التاريخي الصحيح.