أبو جلدة والعرميط

أبو جلدة والعرميط

16 سبتمبر 2015

أمين الحسيني في احتفال النبي يونس بالقدس (1937،Getty)

+ الخط -
ثمة اسمان يترددان كثيراً في التاريخ الشفهي الفلسطيني، هما أبو جلدة (أحمد حمد الحمود) والعرميط (صالح أحمد العرميط). وهذان الاسمان اشتهرا غداة قتلهما ضابطاً في الشرطة البريطانية في 22/ 5/ 1933. وحين ضيّق البريطانيون الخناق عليهما، لجأ أبو جلدة إلى الأردن، والتقى الملك عبد الله واستجار به، لكن الملك سلّمه إلى السلطات البريطانية في فلسطين، التي كانت قد قبضت على زميله العرميط، وشُنق الاثنان في 30 /4 /1934. والقصص التي تروى عن أبو جلدة والعرميط تشبه حكايات عصابة "الكف الأخضر" التي أسسها أحمد طافش، في أواخر سنة 1929، ولم يلبث أعضاء هذه العصابة المعادية للبريطانيين أن تناثروا، بعدما فرَّ أحمد طافش إلى الأردن، فاعتقل وسلم إلى البريطانيين في فلسطين، فحكم بالسجن 15 سنة.
هكذا واجه الفلسطينيون الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني آنذاك: عصابات من أبناء الفلاحين تواجه إدارة انتدابية حديثة وحركة صهيونية أوروبية؛ أي القَدَامة أمام الحداثة. فهل كان في الإمكان الانتصار بمثل هذه العُدَّة؟
بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ عصر القوميات على النطاق العالمي. وفي فلسطين، حاولت النخب المدينية أن تطور هوية قومية للفلسطينيين، ووجدت في الحاج، أمين الحسيني، فرصة وإمكاناً، فالتفّت حوله. لكن الروابط العائلية والعشائرية وعصبية الدم تفوقت على الروابط الوطنية في أحيانٍ كثيرة، وأدت إلى كوارث ونكبات. والمشهور جداً انقسام الفلسطينيين بين حسينيين ونشاشيبيين (أي بين عائلتين). وبينما اتخذ الحسينيون موقف العداء للصهيونية والبريطانيين، زعم النشاشيبيون وحلفاؤهم أن السبيل الوحيد لإنقاذ فلسطين ليس القتال، بل التعاون مع بريطانيا والتفاهم مع اليهود. وبهذا المعنى، لم يعتبر "المعارضون" أنفسهم "خونة"، حين عقدوا الاتفاقات مع الهاغاناه، وقدموا لهم المعلومات الأمنية. وهذا ما فعله نمر الهواري، مثلاً، زعيم منظمة النجادة، وكامل الحسين زعيم عشائر الغوارنة في الحولة، وفخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي والشيخ محمود الدجاني (أمر الحاج أمين بعدم الصلاة عليه). وفي حرب 1948، تعاون بعضهم مع الصهيونيين بشكل مكشوف، أمثال أحمد الصالح من شيوخ الحولة وكامل الحسين. وهذه الوقائع وغيرها جعلت بيني موريس يتجنى في كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" (2004)، ويقول إن أغلبية الفلسطينيين لم تشارك في القتال، ولا سيما العائلات المعارضة.
من الانقسامات الفلسطينية التقليدية التي اشتدت، منذ ثلاثينيات القرن المنصرم فصاعداً، أن بعض القرى تعاونت مع الهاغاناه للحفاظ على الأملاك، فقرية الكبابير، مثلاً، طلبت من مقاتلي الهاغاناه أن يدخلوا إليها، كي لا يدخلها مقاتلو جيش الإنقاذ. وقرية معلول تعاونت مع الهاغاناه ضد القرى المجاورة. ووقعت بعض القرى بين 1947 و1948 اتفاقات مع الهاغاناه، تنص على الامتناع المتبادل عن القتال، ودائماً بحسب بيني موريس، أو استناداً إلى هيلل كوهين في كتابه "جيش الظلال" (2004)، والكتابان يحتاجان إلى التدقيق العلمي في معلوماتهما الصادمة.
لعلني، إذا صحّتْ هذه الوقائع المشكوك في بعضها، أقترب من قول مونتسكيو إن أصحاب الأرض ليست لديهم الغيرة على الحرية، بل على الأرزاق. لذلك يعمدون، مرغمين، إلى الخضوع لمن يحمي أرزاقهم. ومع ذلك، ما زلنا نتفاخر بأبو جلدة والعرميط. وفي هذه الثقافة التقليدية، ليس غريباً أن يختلط الزيت بالماء، ويصبح الخائن وطنياً، والوطني عميلاً على طريقة كامل الحسين، الذي حاول بعضهم إلباسه عباءة وطنية. وقصارى الكلام أن الأوان قد حان، منذ زمن بعيد، لإعادة النظر في الرواية الفلسطينية التقليدية، وتصحيح المرويات الشائعة جداً وغير الصحيحة عن النكبة وعن حرب 1948، وعمّا جرى حقاً في تلك الحقبة، استناداً لا إلى الأرشيف الصهيوني وبيني موريس وهيلل كوهين، بل إلى المحفوظات البريطانية والعربية وغيرهما بالدرجة الأولى، ثم إلى المحفوظات الصهيونية ضرورة لا بد منها أحياناً.