"الأقصى" شاهداً على هوان أمة

"الأقصى" شاهداً على هوان أمة

11 سبتمبر 2015
+ الخط -
بتوقيع وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعالون، يوم الأربعاء (9/9)، قراراً يصنف "المرابطين" و"المرابطات" في المسجد الأقصى "منظمتين غير شرعيتين"، تكون إسرائيل قد دشّنت مرحلة جديدة، في سعيها المحموم إلى تقسيم المسجد مكانياً وزمانياً، وهو التقسيم القائم عملياً. ولكن، لمَّا تستكمل إسرائيل بعد اشتراطاته ومواصفاته بشكل رسمي. ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن يعالون قوله، إن الغرض من وجود المجموعتين "تقويض السيادة الإسرائيلية على جبل الهيكل (المسجد الأقصى)". وبحسب بيان وزارة الدفاع الإسرائيلية: "تشكل أنشطة المرابطين والمرابطات، عنصراً أساسياً في خلق التوتر واندلاع أعمال العنف على جبل الهيكل خصوصاً، وفي القدس عموماً، ويقوم التنظيمان بعمليات استفزازية وخطيرة بحق السياح والزوار والمصلين، ما يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف وتعريض حياة المواطنين للخطر". ويترتب على القرار اعتبار "أي شخص يشارك في فعاليات تنظيمي المرابطين والمرابطات، أو ينظمها أو يمولها، بممارسة عمل محظور، ويتوجب تقديمه إلى العدالة"، حسب بيان الوزارة. 
ولمن لا يعرف، ليس "المرابطون" و"المرابطات" تنظيمين بالمعنى التقني، بقدر ما هما مجموعتان من المصلين والمصليات، من فلسطيني القدس المحتلة، والداخل (فلسطين المحتلة عام 1948)، من حملة الجنسية الإسرائيلية، ممن يحركهم حُبُّ وَهَمُّ الدفاع عن المسجد الأقصى أمام اعتداءات المستوطنين اليهود على حرمته وقداسته، بحماية من جنود الاحتلال الإسرائيلي. وهم يتناوبون الرباط في الأقصى، حماية لقداسته من التدنيس، وسلاحهم في ذلك التكبير والاحتجاج والتظاهر. ويعود للحركة الإسلامية-الجناح الشمالي في مناطق عام 1948، وزعيمها، الشيخ رائد صلاح، الفضل الأكبر في تنظيمهما ودعمهما.
وحسب الشيخ عكرمة صبري، رئيس "الهيئة الإسلامية العليا" في القدس، فإنه "منذ أربع سنوات، تحاول سلطات الاحتلال فرض واقع جديد من خلال التقسيم الزماني (للمسجد الأقصى)". ويرى مستشار ديوان الرئاسة الفلسطينية لشؤون القدس، المحامي أحمد الرويضي، أن الاحتلال الإسرائيلي يريد أن يحسم موضوع "التقسيم الزماني" تمهيداً "للتقسيم المكاني" في ظل الظروف المحيطة والانشغال العربي الإسلامي بالصراعات الدموية عن قضية القدس والأقصى، واتخاذ إجراءات خطيرة، وكأنها صاحبة السيادة. ويحذر الدكتور حسن خاطر، رئيس "مركز القدس الدولي"، من أن الاحتلال يريد "أن نكون نحن المسلمين ضيوفاً على الأقصى، وربما يتجرأ على إلغاء بعض الصلوات، تمهيداً لخطوة أكبر تصب في سياسة الاحتلال الهادفة إلى الاستحواذ على المسجد الأقصى، وتحويله من مقدس إسلامي إلى مقدس يهودي".

يجد التحذير الذي يطلقه خاطر تصديقه على الأرض، ففي الشهر الماضي، اتخذت سلطات الاحتلال قراراً بغلق المسجد الأقصى أمام جميع النساء في ساعات معينة، وحدّدت الفئة العمرية لدخول الرجال باشتراط احتجاز بطاقاتهم الشخصية، فيما منعت الأطفال والقاصرين من دخول المسجد، بشكل نهائي، حتى انتهاء فترة الاقتحامات اليهودية الصباحية. أيضاً، عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى توسيع قائمة الممنوعين من الصلاة في المسجد الأقصى، مدداً متفاوتة، لتضم الآن أكثر من 50 فلسطينياً.
لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى والقدس منذ احتلال الجزء الشرقي من المدينة في يونيو/حزيران 1967، فمنذ ذلك الحين وإسرائيل تقوم بعملية تهويد ممنهجة للمدينة ومعالمها، في محاولة طمس تاريخها العربي والإسلامي. ومن ذلك، مثلاً، ما قامت به شركة إسرائيلية، الشهر الماضي، من افتتاح مقهى على أرض تابعة لمقبرة "مأمن الله" التاريخية التي صادرتها إسرائيل منذ عقود، وتضم رفات عدد من صحابة الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، فضلاً عن علماء وشهداء ساهموا في فتح بيت المقدس.
يتم ذلك كله في ظل غفلة، أو تغافل، فلسطيني وعربي وإسلامي. إسرائيل ماضية في مخططاتها في تهويد الأقصى والحرم القدسي الشريف، دع عنك المدينة نفسها، والكل، فلسطيني وعربي ومسلم، سادر في غيّه لا يلقي بالاً للأمر الجَلَلْ، وكأن الأقصى هذا ليس ثالث مقدس في الإسلام بعد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة. وكأن الأقصى والقدس ليسا رمزين أساسيين وجوهريين للقضية الفلسطينية.
تحركت رمال كثيرة، منذ سبتمبر/أيلول 2000، عندما أطلق الفلسطينيون انتفاضة عارمة ضد زيارة رئيس الوزراء الأسبق، أرئيل شارون، المسجد الأقصى. يومها، كان شارون زعيماً للمعارضة، ولم يكن في موقع المسؤولية، ولم تكن زيارته تلك بحال على درجة خطورة ما تفعله الحكومة الإسرائيلية، اليوم، لتهويد الأقصى كلياً. ضع جانباً الشعارات والبيانات والخطب الرنانة والتهديدات الفارغة، فإنك اليوم، لا تكاد تجد صدى فلسطينياً للعدوان على حرمة الأقصى وقدسيته. فالرئيس مشغول في تعزيز سلطته، وترتيب "البيت القيادي" في منظمة التحرير الفلسطينية، لإقصاء من يخالفه، في حين ينهمك من حوله في ترتيب موضوع خلافته. والسلطة الفلسطينية تائهة في انتظار استئناف مفاوضاتٍ لم تتحقق "شروطها" بعد. وأجهزتها الأمنية غارقة حتى الأذنين في التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وحماس معزولة في قطاع غزة، وهي، وفصائل المقاومة الأخرى، مطاردة في الضفة الغربية من أجهزة أمن السلطة وإسرائيل. أما عربياً، فالمنطقة غارقة في الفوضى والدماء والقتل والتدمير الذاتي. لم تراهن فلسطين على الأنظمة يوماً، ولكن، حتى الحضن الشعبي العربي الذي كان أكثر دفئاً، دوماً، لم يعد كذلك اليوم، وأنَّى له أن يكون وأبناؤه يبتلعهم البحر أحياء، بعد أن ضاقت بهم جغرافيا "عالم عربي" ليس له وجود إلا في "المخيال الجَمَعِّي". بل إنه حتى هذا المخيال عديم الجدوى والفائدة العملية، أصبح هناك من يعتبره، اليوم، مخيالاً مرضياً. فحسب هؤلاء، لا وجود لـ"أمة عربية"، فالكل يطرح "أنا أولا"، غير أن المشكلة أن هذه "الأنا" المتضخمة عاجزة عن تحقيق ذاتها، بعيداً عن عمقها العربي الحقيقي.
بكلمة، المخاطر المحدقة بالأقصى، اليوم، ما هي إلا تلخيص لحال أمةٍ، هانت على نفسها، فهانت عند أعدائها.