الحجر شاهداً

الحجر شاهداً

29 اغسطس 2015
+ الخط -

دُعيت، في منتصف عام 2011، إلى مهرجان ثقافي في مالطا، مع كتّاب وشعراء عرب وأوروبيين وأميركيين. كان المهرجان بمثابة التحية إلى ثورات الربيع العربي التي كانت في ألقها. مالطا دولة صغيرة جداً، وغاية في الجمال، تشبه مدننا الساحلية في سورية ولبنان، موقعها الجميل عرّضها للغزو، وتعاقبت عليها حضارات قديمة وحديثة، بدءاً من الفينيقيين والرومان مروراً بالإسلام، وصولاً إلى الدول الأوروبية الاستعمارية. هذا كلّه جعلها حالة استثنائية، في لغتها وفي نُظُمها المعمارية، وفي طبيعة شعبها وثقافته المجتمعية. كان المهرجان فرصة لنا لاكتشاف هذه الدولة، في الفاعليات أو عبر الرحلات التي تم تنظيمها لنا، إلى البحر والجزر القليلة هناك، إلى القسم الحديث من العاصمة، إلى منطقة الأثرياء القديمة الفاتنة، وإلى القرى الصغيرة جداً المنتشرة على جوانب العاصمة، غير أن الزيارة الأهم، بالنسبة للمنظمين، كانت إلى المنطقة الأثرية المحمية، وإلى المتحف المقام في المنطقة نفسها.

توقعنا أننا سنكون أمام منطقة كبيرة ومدهشة: نحن في مالطا، ومالطا في ذاكرتنا العربية حاضرة جداً، غير أن صدمتنا كانت كبيرة، حين وصلنا إلى المتحف: بناءٌ صغير بالغ الأناقة والترتيب، دخلنا، بعد شراء تذاكر الدخول، لنرى في غرفه القليلة خزائن بلورية فاخرة، وفي داخلها بقايا أوانٍ فخارية قديمة، وتماثيل أثرية صغيرة وحُلى قليلة، تعود إلى العهدين، الفينيقي والروماني. وعلى كل نافذة بطاقة تشرح تاريخ القطعة المعروضة، كعادة المتاحف في كل دول العالم. بعد المتحف، مشينا قليلاً لنرى أنفسنا تحت خيمة عاليةٍ، تظلّل ما تبقّى من سور دائري حجري، يعود إلى العصر الروماني. قالوا لنا إنه كان مسرحاً رومانياً. ما كان مذهلاً لنا هو طريقة حماية بقايا المسرح من عوامل الطبيعة. مشينا قليلاً، أيضاً، في طريق ترابية منحدرة، لنرى ما تبقى من المسرح اليوناني الكبير، بضعة أعمدة، وبقايا مدرجات، وبقايا غرف حجرية. سألنا مرافقينا: هل هناك مناطق أثرية أخرى؟ هناك القليل المتفرّق، الأهم هو هنا، قالوا. بالنسبة لنا، نحن العرب، كنا مذهولين بمدى اعتزاز مرافقينا بهذا الأثر الذي ليس سوى جزء صغير جداً ممّا لدينا في بلادنا. كنا نراقبهم كيف يمسحون بأيديهم على الحجارة القديمة بحنان وفخر استثنائي، كيف يشرحون لنا هذا التاريخ الهائل بالنسبة لهم، وطرقهم للحفاظ عليه رمزاً لعراقة بلدهم.

كنت، أنا السورية ومعي ثلاثة أصدقاء مصريين، نتذكّر بلادنا التي تم نهبها وتجريفها من ذاكرتها الحضارية، وبيعها لتُعرض في متاحف العالم، كيف تخلو متاحفنا من أهم آثار حضاراتنا، كيف يتم الفتك بالمناطق الأثرية الهائلة لدينا. ومع ذلك، كنّا وقتها أيضاً مفعمين بالأمل: سيتغيّر كل شيء. ستستعيد بلادنا قيمتها الحضارية وعراقتها. الدول الجديدة التي سنبنيها بعد الثورات ستعيد ما تناهبه العالم من آثار حضاراتنا، سنعيد إلى بلادنا ذاكرتها وتاريخها وأصالتها. كنا مجرد حالمين، ثوريين حالمين.

 أتذكّر رحلتي إلى مالطا هذه الأيام، وأنا أرى يومياً ما يحدث في سورية، كيف يتواطأ الجميع على هدم ما يربطها بالتاريخ الحضاري القديم. كيف تدمّر طائرات النظام المساجد والأسواق الأثرية. كيف تدمر صواريخ الكتائب المسلحة أطراف القلاع والمدن القديمة. كيف يهدّ (المحررون) التماثيل في المدن التي يدخلونها. كيف يفتك تنظيم داعش بكل ما يمت للحضارة بصلة، معابد، تماثيل، مدن أثرية. كيف تنشط سرقة الآثار وتهريبها. كيف يحدث هذا كله، والعالم صامت أو متواطئ، وقد تواطأ أصلاً على دم الإنسان السوري، لماذا سيتحرك أمام التاريخ السوري؟ ما يثير الرعب أكثر في حالنا السوري أن عدداً لا بأس به ممّن كانوا يحلمون بهذه السورية النبيلة، الحديثة الأصيلة، يصمتون عن تدمير التاريخ، بذريعة أن الحجر ليس أهم من البشر، متناسين أن هذا الحجر ذاكرة ورائحة، وبصمات بشر كانوا يحلمون، مثلنا، ببلاد رائعة، وبأنسال من البشر ترمّم ما يهدمه الزمن. هذا الحجر هو ما يميّز عراقة البلاد، هذه البلاد التي يميتها أبناؤها بكل أسباب الموت، بينما يبقى هذا الحجر الذي لا يعجب أحداً شاهداً أزليّاً على ما حدث ويحدث. هذا هو ربما ما يجعل الجميع يريدون تحويله إلى تراب، لكي لا يبقى ما يدل على ما كان هنا ذات يوم. 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.