بعد هزيمة التيار الإسلامي الوسطي

بعد هزيمة التيار الإسلامي الوسطي

27 اغسطس 2015
+ الخط -
طوال العقد الماضي تقريباً، أو ربما يزيد، كنا نقول إن تيارات اليسار العربي والقوميين، والقوى المحافظة، والمتلونين، وحتى المتحولين، ومن لا يُعرف تصنيفهم، أخذوا فرصتهم في "تجريب" رؤاهم واجتهاداتهم، في النهوض بأمة العرب، وكانت الحصيلة لا تسر، فقد فشل كل هؤلاء في أن يكونوا على سوية قريبة ممن بدأوا نهضتهم بالتزامن، ونستحضر هنا تجارب عدة، مثل، اليابان والهند ودول النمور الآسيوية وسواهم، ممن استطاعوا، بداية من حقبة الاستقلالات العربية، أن يحققوا ما عجز عنه العرب الذين سجلوا سلاسل متوالية من فصول الفشل، حتى جاءت حقبة الربيع العربي، وهو ربيع فعلي، رغماً عن كل ما قيل وما سيقال عنه، لسبب بسيط، فهو الذي أعاد الثقة للمواطن البسيط، وعلمه أن في وسعه أن يكون ذا تأثير في صناعة مستقبله، دافناً جملة من المقولات الانهزامية، مثل: وأنا مالي، وشو ممكن أعمل، وحط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس، وامش الحيط الحيط وقل يا رب الستر، وغيرها من الأوهام.
جاءت حقبة الربيع بالإسلاميين في غير موقع، وبدأ ما يشبه الفصل الجديد من التاريخ العربي، وقيل: جربتم كل ألوان الطيف السياسي، فلم لا تجربوا الإسلاميين. وفي هذا قدر كبير من المعقولية، على الرغم من مخاوف كامنة في نفوس كثيرين من بعض العقليات التي تحكم التيار الإسلامي. وثمة فئة، أو أكثر، لم تقف على الحياد، فأشرعت مدافعها قصفاً ومقاومة لرجالات هذا التيار، وحاولت بكل السبل، ولم تزل، النيل من التجربة الجديدة وإفشالها، وتحالفت مع شياطين الأرض، لإجهاض التجربة، حتى قبل أن تبدأ. وهذا طبيعي، فلم تكن طريق الأنبياء والرسل والمصلحين معبدة بالورود، فكيف برجال سياسة وحكم، يحملون رؤية إسلامية، ولهم اجتهاداتهم المثيرة للجدل أحياناً، إن لم يكن في غالب الأحيان؟

في المحصلة، تبوأ إسلاميون سدة الحكم في غير بلد عربي، وبدأوا إنزال رؤاهم النظرية في الحكم التي وعدوا بها الشعوب منذ عقود، على أرض الواقع، فكانت النتيجة، أو على الأقل مؤشراتها الأولى، كارثية، إن لم تكن غير موفقة، من دون النظر طبعاً إلى أي معوقات، مصطنعة أو طبيعية، وقفت في طريقهم؛ لأن على من يتصدى لحمل ملف الحكم أن يعرف حجم العقبات التي ستعترضه، وبالتالي، يفترض أن لديه الخطط لمواجهتها. أما التيار العريض في حركة الإسلام الوسطي، وتحديداً الإخوان المسلمين، فبدا أنهم أتقنوا لعب دور "المعارضة" جيداً طوال سنين خلت، حتى إذا انتقلوا إلى كرسي الحكم، بدا عليهم الارتباك والاضطراب والخوف، فضلاً عن عدم قدرتهم على استيعاب الآخرين، والعمل معهم، واستمالة الخصوم واستيعابهم، حيث ظل هؤلاء في نظر الإسلاميين مناقضين للتنظيم، ولم يدركوا أنهم شركاء في الوطن.
لن نتسرع الآن، ونقول إننا بدأنا نعيش مرحلة "ما بعد الإسلاميين"، فثمة متسع من الوقت، لتدارك الأخطاء الفاحشة التي وقع بها الإسلاميون، وإن بدا أن فرصة التغيير تضيق أكثر فأكثر. الإسلاميون، الآن، بحاجة لخطوات ثورية لإعادة الألق إلى التجربة الجديدة، وإنقاذ المشروع النهضوي الإسلامي الذي تعلقت به قلوب الملايين، من مسلمين وإسلاميين وغيرهما، علماً أن ثمن فشل تجربتهم باهظ جداً، فقد قالها لي عربي يساري مسيحي علق آمالاً كبيرة على نجاح التجربة: إن لم ينجح هؤلاء بعد طول انتظار، فما البديل؟
واليوم، في وسعنا أن نقول بملء الفم، إن التيار الوسطي في حركة النهوض الإسلامي الحديثة هُزم شر هزيمة في معركة كبرى، (وإن لم يخسر الحرب، كما يُقال)، وهو كما يبدو في حركة مراجعة جبرية، ويدفع أتباعه ثمن الإخفاقات التي وقعوا بها، لا بل يدفع المواطن العربي، حيثما كان، ثمن هذه الهزيمة، على غير صعيد، بعد أن بدأت مرحلة الثأر من "الربيع العربي" وأهله، وثمّة في غير مكان من هذا العالم، تدور رحى عملية مراجعة قاسية ومريرة، لكل الاجتهادات التي أدت إلى ما أدت إليه، في الحركة الإسلامية، وخصوصاً في كبرى الدول العربية، مصر.
وعلى مشارف هذه العملية، في وسع المرء أن يستبطن رؤية استشرافية لمستقبل هذا التيار، وما ستؤول إليه حاله، بعد الهزيمة المنكرة التي مني بها.
أغلب الظن أن هذا التيار سيتخلص، فعلياً، من جميع البنى والهياكل القديمة التي قادته، في الحقب الماضية، وسينتج حالة جديدة من القيادات والاجتهادات الجديدة التي كانت نواها موجودة أصلاً داخله. ولكن، كان يتم طمسها وإقصاؤها بعيداً عن مركز القيادة، بحجة أنها لم تصل إلى مرحلة النضج، ولم تعركها التجارب، وهؤلاء "القادة الجدد" سيكونون مسلحين بفشل "الكبار" لفرض رؤاهم واجتهاداتهم، وهم أكثر براغماتية ومرونة ممن سبقهم، وثمّة ما يؤكد، في غير ساحة، أن هؤلاء بدأوا يتسلمون الرايات، وهم، الآن، في مرحلة تشكل وتبلور، وربما يُفاجَأ الجميع بما يمكن أن تبدو عليه قيادات هذا التيار، من قدرة عالية على احتراف السياسة، وتغليب السياسي على الدعوي، مع استلهام أكثر حميمية للتجربة التركية.
يتهيأ تيار الإسلام الوسطي، كما يبدو، للخروج بحلة جديدة، تهضم جميع مرارات الفشل السابق، وهذا مسار جبري لا مندوحة عنه، فهو تيار غير قابل للاندثار، مهما تعرض إلى العواصف والأنواء، لأنه يمثل الغالبية الساحقة من المسلمين، ويتناغم مع ما استقر في وجدانهم، ولا يوجد أمامه من سبيل، إلا أن يعيد إنتاج نفسه، وفق ما تفرضه المرحلة.