المثقف والجمهور.. في هزيمة المثل الأعلى الثقافي

المثقف والجمهور.. في هزيمة المثل الأعلى الثقافي

25 اغسطس 2015

من الثورة اليمنية.. الربيع العربي والهوة مع المثقف العربي

+ الخط -
يحافظ الفكر على استقلاله النسبي عن الواقع الذي أنتجه. وقد يسبق الفكر الواقع، كما في عصر النهضة والأنوار الأوروبيين، أو قد يتخلف عن مواكبة متغيرات الواقع، كالفكر العربي منذ القرن الثالث عشر. ولكل مجتمع، في إحدى مراحله التاريخية، أزمته الثقافية الخاصة، لكن الثقافة، بشكل عام، تبدو مـأزومة دائماً، حيث تنجم جدلية الفكر والواقع عن الصراع بينهما. وتنتهي الأزمة الثقافية، حين يتم التصالح بينهما، بتحقيق وعي مطابق للواقع، بوصف هذا الوعي تركيباً جديداً، يحسم مرحلة ما من مراحل هذا الصراع.
والثقافة، بمفهومها الاجتماعي، هي الاتجاهات والقيم السائدة في مجتمع معين، معبر عنها برموز اللغة والأساطير والمؤسسات الاجتماعية، وأنماط الحياة المختلفة. أما المثل الأعلى للثقافة، فيقتضي السمو بالتكوين الروحي والأخلاقي والفكري للإنسان، وبرؤيته للعالم، إلى حدودها القصوى. وهو ما يفترض، حسب تعبير هربرت ريد، أن تختفي الثقافة نفسها، لتصبح تكويناً داخلياً تلقائياً في الإنسان، لا يحتاج معه إلى أي عون خارجي. وهنا، يصح القول، إن الثقافة هي ما يتبقى، بعد أن تنسى ما تعلمتَه. فمع المثل الأعلى، لا تبقى الثقافة خارجية، بل جزءاً من شخصية الإنسان. والمسافة بين هذا وذاك هي بين الجماعي والفردي، بين بدايات الوعي وإنتاجه، وبين الإبداع والاتباع، وبين الموروث الراكد والمنتجات العليا للثقافة، المتحركة بسرعة إلى مستويات أعلى. أي، بين الثقافتين الشعبية والنُخَبية. واتساع المسافة بين الطرفين سمة مجتمعاتنا العربية التي لا تزال مجتمعات تقليدية. وإذا كان التحدي الذي تواجهه الثقافة الغربية، منذ القرن التاسع عشر، هو تحدي العلم والتخصص العلمي، فإن السلطة لا تزال التحدي الذي تواجهه الثقافة العربية، ولا يزال الفكر العربي المأزوم، يعيد إنتاج إشكالياته نفسها، من دون تحقيق وعي مطابق.
تهيمن سلطة العرف والتقليد، المستندة إلى عناصر الموروث والقدم والشهرة والرغبة وسرعة التصديق، على الثقافة الشعبية ومن خلالها تلتقي بالسلطتين الدينية والسياسية، ليشكل هذا الثالوث السلطوي حالة من الضغط على الثقافي، كان الخضوع لها كافياً لتعطيل الإبداع، وتفريغ الثقافي من مضمونه، وإعاقة دوره في التجاوز والتغيير. أما المواجهة المباشرة مع هذا الثالوث فتعني مواجهة النفي وإحراق الكتب والتصفية الجسدية.

ولم يكن البطش المباشر للسلطة السياسة التي استغلت سلطة بعض رجال الدين لتعويض شرعيتها الناقصة، وحده ما يهدد الأمن الثقافي، بل كانت الحالة الجماهيرية المحرضة، سياسياً ودينياً، أشد عنفاً، من عنف السلطة السياسة وأجهزتها الأمنية. فالسلطة السياسية قد تخضع إلى توازنات وحسابات دقيقة، في رسم سياستها والحفاظ على مصالحها، ما يتيح للمثقف هامشاً للمناورة، أما الجماهير إن تحركت، فإنما بوحي من انفعالاتها وعواطفها التي لا تعرف مهادنة، لاسيما حين تتلقى تحريضاً للذود عما تعتقده مقدساً. فقد كانت الجماهير أداة للخطاب الشعبوي الذي صاغه عبدالله بن عياش، كاتب الخليفة المنصور، والذي شيطن المشتغلين بالفلسفة، بوصفهم حملة ثقافة الآخر المخالف في الملة والاعتقاد، وبرر إقصاءهم ونفيهم وحرق كتبهم. كان على المثقف أن يلجأ إلى التقيّة، وكانت عبارة "المضنون به على غير أهله" إحدى العبارات التي تشير إلى الحذر الأيديولوجي والمعرفي، سعياً من المثقف لتحييد الجماهير.
أدرك الجاحظ (القرن 9 م) وزن الجماهير/ العوام، وضرورة السيطرة على الثقافة الشعبية التي كانت ساحة صراع بين تيارات سياسية وفكرية متعارضة، ودورهم الحاسم. فحاول رسم سياسة لتدبيرهم: "قاربوا هذه السفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وأن المتهور من كانت عليه" (رسائل الجاحظ). لكنه يعترف، أيضاً، بصعوبة المسألة:" وليس في الأرض عمل أكد لأهله من سياسة العوام" (الحيوان). كان على المثقف أن يكسب العوام اتقاء شرّهم ترويجاً لبضاعته الثقافية. لكن، على هؤلاء أن يلتزموا حدوداً معينة، فالغزالي (ق11م) الذي مارس نوعاً من الخطاب الشعبوي التحريضي ضد المشتغلين بالفلسفة، في كتابه (تهافت الفلاسفة)، لصالح صوفيةٍ معتدلةٍ، لاقت رواجاً جماهيرياً واسعاً، وضع للعوام حدوداً عليهم ألا يتخطوها، ولعنوان أحد كتبه (لجم العوام عن علم الكلام) دلالة مهمة في هذا السياق.
منذ العصر السلجوقي (ق.11م)، أخذت المسافة تزداد اتساعاً بين الثقافتين، النُخَبية والشعبية، مع انهيار ثقافة المدينة العربية واقتصادها المزدهر، وتزايد الهوة بين الفقراء والأغنياء التي أدت إلى الاضطرابات السياسية والحركات الاحتجاجية الواسعة التي افتقدت رؤية اجتماعية سياسية واقتصادية واضحة، ووصفها مثقفو ذاك العصر بثورات العيارين والغوغاء. وفي عصر النهضة، صدمت الحداثة العرب، ومع أمية متفشية، لم يسهم تطور الصحافة إلا بمزيد من النخبوية الثقافية، وبقيت النهضة في المحصلة مجرد فكرة في عقول النهضويين، لتهيمن الأصولية على الثقافة الشعبية، منذ أخرج حسن البنا الإصلاح الديني من دائرته النخبوية. ولم يكن لحضور التوجهات الأخرى ممكناً من دون محاولة التقرب من الثقافة الشعبية، عبر التوفيق بين الإسلام والعروبة، أو بينه وبين الاشتراكية، أو حتى الزعم بعلمانية الإسلام نفسه.
اشتد الصراع على الفضاء العام في مرحلة الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وكانت الغلبة للسلطة السياسية وأجهزتها الأمنية، فتم تسييس الدين والثقافة ولقمة العيش أيضاً، ولم يعد المثقف رجل الاختيار والبدائل، بل رجل القوالب الأيديولوجية والنتائج الجاهزة، فتخلى كثيرون منهم عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية، لصالح المشاريع الأيديولوجية، فبدا المثقف يغرّد في فضاء مجرد، بعيداً عن ملامسة هموم الجماهير وواقعهم المعاش.

في التسعينيات، تحول المثقف، بفضل الفضائيات العربية، إلى محلل سياسي أو خبير في هذا الشأن أو ذاك. وبحجة التخصص، تمت تشظية الواقع إلى أحداث متناثرة لا ناظم لها، ما أسس لفكر متلق غير منتج، يتكون، حسب الشائع من الفكر، أو تبعاً للأيديولوجي والسياسي المهيمن، يجد العصرنة والحداثة مع كل "موضة" فكرية صاعدة. أما في مجتمع المعرفة، فيجري تبادل للمعلومات ومشاركتها على نطاق واسع. لكن، في ظل هيمنة ثقافة شعبية تقوم على النقل، ونظام تعليم يقوم على الحفظ والاستعادة على حساب مهارات التفكير العليا (حل المشكلات، واتخاذ القرار، والنقد ...)، لم تتوفر مناهج التفكير القادرة على تحويل تلك المعارف إلى معرفة، تنتج تصورات مشتركة. مع ذلك، أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي هامشاً واسعاً من حرية التعبير والرأي، نمت في ظلها نزعة تمرد، وعَمَّمَت مشاعر الغضب والاحتجاج. وبالتدريج، تزعزعت هيبة السلطة واقعياً، بعد تلاشيها افتراضياً.
لا تعترف الثقافة باليونيفورم الفكري. لكن، من طبيعتها في مستوياتها العليا القدرة على بناء رؤى وتصورات مشتركة، ويعد ذلك أحد العوامل الضرورية للانتقال من الثقافة، من كونها مُنتَجاً اجتماعياً إلى الثقافة كمُنتِج للاجتماعي، بحيث نكون أقرب ما يمكن للمثل الأعلى للثقافة. لكن "الربيع العربي" كشف عمق أزمتنا الثقافية، الماثل في حجم الهوة بين الثقافتين الشعبية والنخبية، وفضح ريبة بعض المثقفين تجاه الجماهير وحراكهم، بحكم نخبويته التي طالما تحصن وراءها، وبينت مدى ضعف ثقة الجماهير بالمثقف، بقدر ابتعاده عن التعبير عن تطلعاتها، والرقي بها في الوقت نفسه. أما المثقف الشعبوي، فلم يستطع أن يكون في موقع القيادة، حين تأكد عجزه عن امتلاك رؤية واضحة، توجه هذا الحراك، مكتفياً بركوب الأمواج الجماهيرية.
بعد تسييس الثقافة، وغياب تثقيف السياسة، أربك الحراك المفاجئ النظام السياسي والمثقف في آن معاً، وما أن تحقق ما تبلور لاحقاً هدفا للحراك العفوي "إسقاط النظام"، طرحت الأسئلة بشأن شكل النظام الاجتماعي، السياسي والاقتصادي، المطلوب، ووسائل تحقيق ذلك. لكن، مع استمرار هزيمة المثل الأعلى للثقافة، كانت الإجابة: "لنا الله".

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.