الواجبان الشرعي والأخلاقي.. التعقّل والمقايضة

الواجبان الشرعي والأخلاقي.. التعقّل والمقايضة

18 اغسطس 2015

دعاء إلى الله (Getty)

+ الخط -
بات حالنا، أنه حتى في الأماكن التي لا تشتعل فيها نيران معارك مسلحة، ما أن يعود عَربيٌّ إلى منزله في نهاية يومه، رجلا كان أو إمرأة، إلا وتنفس الصعداء، شاكرا الله أنه سَلِمَ من القتل، أو التحرش، أو "التشليح". وبات تحاشي أكبر قدر ممكن من المضايقات اليومية الناتجة عن سلوكيات غير حضارية، من موجبات شكر النعمة. وعلى الرغم من أن الدين يشكل أبرز مكونات ثقافتنا الشعبية، فيغلب التديّن على مجتمعاتنا، بل يبدو التوجه نحو مزيد من الالتزام الديني على أشده، إلا أننا بتنا ندرك عمق أزمتنا الأخلاقية، فهل يلتقي الواجب الشرعي بالواجب الأخلاقي دائما؟
 
انتهى حدثان موسميان، شهر رمضان وشهر الامتحانات، ولم نعد نتفاجأ بعودة كثيرين، ممن نعرف عن سلوكهم الموسوم بالوقار والتُقى بعد انتهاء رمضان، إلى حالتهم التي كانوا عليها، والمناقِضَة لتلك الصورة الرمضانية. أما المصلون جماعة، فأعدادهم تتناقص، نتيجة عزوف الطلبة عن متابعة ارتياد المساجد بعد انتهاء امتحاناتهم وظهور نتائجها. هكذا، تخضع الواجبات الشرعية، أحياناً عديدة، للمناورة، وتصبح نوعا من الشطارة، إذ يحوّل الفهم الشعبي الدين إلى تجارة، تَختزل الواجبين الشرعي والأخلاقي، في عقوبات ومكافآت تحدث في العالمين الدنيوي أو الأخروي، جزاء القيام بهما. هنا، يقوم نوع من المقايضة، ففي مقابل الاعتراف بالله وعبادته وكف البليّة عن الناس، هناك توقع للنعم، ليغدو الواجب تعاقديا. ومبكراً، أقرّ القرآن بهذه الظاهرة، ودانها، في الوقت نفسه: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْك، دَعَوْا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت:65).
بينما ذهب بعض المسلمين إلى أن الله يحقق وعده (الثواب) كما وعد، لكن وعيده (العقاب) قد يختلف، لأنه غفور رحيم، ودرءا لاستمرار المقايضة، ومنعاً للتراخي في الالتزامين الديني والأخلاقي، يرفض المعتزلة العفو والمغفرة. فالله لا يتراجع، لا عن وعده، ولا عن وعيده، لأنه ألزم نفسه بهما، وإلا لتساوى الصالح والطالح، ووقع الظلم الذي يتنافى مع العدل الإلهي. ومع المعتزلة، تبرز محاولة التنظير لمفهوم الواجب الأخلاقي، حين عَدّت التحسين والتقبيح أمرين منوطين بالعقل، لا بالنص، وحَمّلّت الإنسان المسؤولية عن أفعاله، انطلاقا من حريته في الاختيار. وباستثناء هذه المحاولة التي لم تكتمل، نظرت التوجهات الإسلامية العامة والمهيمنة إلى الفضائل على أنها فطرية في الإنسان، لا مكتسبة نتيجة نضال تاريخي، وينبغي تصحيح الانحراف عنها بالسعي إلى اكتمال الفرد عبر الحياة الجماعية التي ينظّمها التشريع الإسلامي (الشريعة)، المعتمد منهجياً على الاستنباط من النص ورفض الرأي والقياس، فغاب عن التشريع الإسلامي الواجب الأخلاقي القائم على التعقل، لصالح الواجب الشرعي القائم على الطاعة، والهادف إلى احترام حقوق الله وحقوق العباد (قانون العقوبات). وعلى الرغم من أن الإسلام مارس فضائل حقيقية، إلا أن الفضيلة الإسلامية الرئيسية، أي التقوى، أصبحت تقوم على تلك المقايضة، حين بات التَقِيُّ هو الملتزم بالفروض الشرعية، خشية من عقاب الله، وطمعا في ثوابه. أما مسؤولية الإنسان عن أفعاله، فلا تستمد هنا من حرية الاختيار، بل من الميثاق القَبْلِي بين الله وعباده: (... وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَى، شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172). أما صلاحية التشريع لكل زمان ومكان فاصطدمت بالوضعية التاريخية الاجتماعية المتلقية له، وما فيها من عادات وتقاليد وعقائد شعبية، فتطلب ذلك دائما، اجتهادات فقهية، لم تستطع دائما أن تنجو من ضغط الفهم الشعبي للدين. وقد نبه القرآن إلى دور الفهم الشعبي المتمثل في العادات والتقاليد الراسخة التي تعيق تقبل التشريع، حين تحدث عن الأعراب الأكثر تمسكا بالتقاليد، مقارنة بأهل الأمصار والحضر: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة 97). وبكل حال، اكتفت تلك الاجتهادات بمحاولة تأطير الواجبات الشرعية وتقنينها، ولم تقدم تنظيراً عن الواجب الأخلاقي، فبقيت التشريعات بمثابة قوانين موضوعية مكررة، تعتمد على الترغيب والترهيب، بدل أن تقوم على الإقناع، ما حال دون تحولها إلى قيم، ومن دون إبداع قيم جديدة.

منذ العصور السحيقة، قام التفكير الديني الذي تحول إلى أحد أشكال الوعي الإنساني على نظام المقايضة، فحاول الإنسان البدائي استرضاء القوى الغيبية الكامنة خلف الظواهر الطبيعية بالنذور والقرابين. وخلافا للفهم الديني السائد، قدمت الفلسفة اليونانية تصوراً مختلفا عن الحياة الخيّرة، يقوم على توفر الفضائل الضرورية للوصول إلى السعادة. ولم تظهر فكرة الواجب إلا مع الفلسفة الرواقية، لتصبح الحياة الفاضلة طاعة لقانون معقول. حيث وحّدت الرواقية بين العقلين، الكلي (النظام الكوني) والمتناهي (العقل الإنساني)، بمثابتهما قانونا/واجباً، تخضع له الحياة الفاضلة.
تلقّفت المسيحية مفهوم الواجب القائم على طاعة القانون، مع فارق جوهري، هو أن هذا الواجب ليس معقولاً، بل موحىً به، تنبغي طاعته، سواء وجد فيه المؤمن سعادته الدنيوية أم لا، طالما كانت الآخرة خيراً وأبقى، فاستمرت التعاقدية الأخلاقية ونظام المقايضة. وكان ينبغي انتظار الثورة الأخلاقية للقرن الثامن عشر، فلم يجد ديدرو في الأخلاق السائدة أي فضيلة، بل ينبغي لتوفرها قسر جميع الأهواء على التعاون، من أجل الخير العام للجنس البشري، من دون أي طمع بمكافأة أو خوف من عقاب. وطالب روسّو بإبعاد الطفل عن التعليم الديني، قبل سن السادسة عشرة، حتى لا يتحول التدين إلى عادة وتقليد، يحجب الاقتناع العقلي. أما كانط، فيحاول إنقاذ الواجب الأخلاقي من وطأة المساومة الشخصية التي جعلته مطيّة متغيرة، لا غاية مستقرة. فرفض أن يكون الأشخاص مجرد وسائل لتحقيق مكاسب في الدنيا أو الآخرة، بل لا بد من احترام الإنسانية، بالتجرد عن المنفعة والعواطف الآنية والمتغيرة. فلا مبرر لطاعة الواجب سوى كونه واجباً، يصدر عن العقل، فأفعال عظيمة نقوم بها ننتظر من ورائها نعمة السماء، أو نقوم بها بدافع الشفقة، أو التعاطف، تستحق الإطراء، لكنها لا توازي بقيمتها الأخلاقية أفعالا أقل نفعاً، أو أقل جلبا للسعادة، قمنا بها بدافع من الواجب المحض التي وحدها تستحق الاحترام. فالواجب لا يعرض أي مساومة: "لو كانت سعادة البشرية تتوقف على قتل طفل واحد، فإن قتله عمل غير أخلاقي"
لا يكون الإنسان أخلاقيا بما يحمله من عادات موروثة فقط. بل أيضا، بما لديه من قدرة على إبداع قيم أخلاقية جديدة، تتماشى وروح العصر. ولتحقيق ذلك، ينبغي، من جملة أمور أخرى، إصلاح المنظومة الأخلاقية الإسلامية بالتأسيس للواجب الأخلاقي القائم على التعقّل، بما لا يتناقض مع المقاصد الكلية للشريعة، التي يشكل إتمام مكارم الأخلاق أحد أبرز عناوينها، بحيث يمثّل السلوك، القائم على التبصر، لا على الطمع، بالثواب والخشية من العقاب، نقطة التقاء الواجب الشرعي بالأخلاقي، بدل أن ينتهي التفريط بأحدهما إلى التفريط بكليهما، وبحيث يتم التخلص من نظام المقايضة الذي يضعهما موضع التعارض، كما تفعل المقولة الشعبية السائدة: "ساعة لكَ وأخرى لربَكَ". كما أن صلاح الدنيا يتطلب منحها قيمة بذاتها، لا أن تبقى مجرد وسيلة للسعادة في الآخرة.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.