الافتراض والدهشة المفقودة
الافتراض والدهشة المفقودة
نتحدث يوميا، صباحا ومساء، نعرف جيداً متى تكون إحدانا حزينة أو مصابة بصداع أو غاضبة، نعرف ماذا أكلت وماذا تلبس، وماذا تسوقت، نعرف مشاريع كلتينا اليومية، ومن قابلت من الأصحاب والأحباب والأقارب، نعرف عدد الساعات التي نامتها كلتانا وانعكاس الراحة أو عدمها على بشرتينا، حتى أننا نعرف أمكنة الجروح الحديثة، وقرصات الناموس والانتفاخات تحت العيون.
لا يحتاج الأمر إلى جهد لمعرفة هذا كله، يكفي أن تستخدم إحدانا السكايب أو الواتس آب أو فايبر أو ماسينجر فيسبوك أو فيس تايم، ثم ينطلق الرنين عند الأخرى، فتصبح كل تلك التفاصيل متاحة وسهلة وقريبة. العالم فعلا تحول إلى قرية صغيرة، بيوت سكانها متقاربة، لم تعد المسافات والأميال تعني شيئاً. اختصرت الاتصالات الحديثة المسافات، وجعلت من مفرداتٍ، كالغربة والمنفى، مجرد مفردات لغوية، تدل على المسافة، لاعلى شحنة العواطف ودلالاتها التي كانت تحملها، قبل هذه الثورة المذهلة في علم الاتصال والتواصل، فالمنفى هو الابتعاد عن الوطن، بما هو علاقات وتفاصيل حياة يومية مشتركة وذاكرة. المنفى هو الحنين لكل هذه التفاصيل، والغربة انقطاع التواصل مع الآخرين المقربين، والإحساس الفادح بالوحشة.
سابقاً، كان الصوت، عبر الهاتف، الرابط الوحيد مع الأحباء البعيدين، ولم يكن كافيا ليزيل تلك الوحشة، الصورة الحية اليوم خففت كثيرا شعور الاغتراب، وما يلحق به من شوق وحنين وافتقاد، فنحن اليوم نتابع تفاصيل حياة أحبائنا مباشرة، وهم على بعد مئات آلاف الأميال. نتابع كل لحظات حياتهم، بكل ما فيها، كثيرون منا تابعوا أعراس أبنائهم عبر السكايب، مثلا، أو حفلات تخرجهم من الجامعات، أو لحظات ولادة أحفادهم وتدرّج نموهم، كثر منا أيضا، شاركوا في جنازات أحباء لهم افتراضيا.
مذهلٌ هذا ومخيف في الوقت نفسه، مذهل بقدرته على اختصار المسافة والزمن وكسر المعنى النفسي التقليدي للاغتراب، ومخيف بقدرته على تحويل الافتراض إلى واقع، وبالتالي، الاستعاضة عن الواقع الحقيقي بالواقع المفترض. هنا، يصبح للاغتراب مفهوم آخر، أكثر تعقيدا، فالحياة هي جهاز بشاشة صغيرة، ما يظهر عليها هو ما يمنح للحياة معناها، أما ما يحدث في الخارج، فهو غير موجود. الحياة الواقعية للشخص في مكانه الجديد غير موجودة، تركيزه موجّه نحو هذه الشاشة، حتى لو كان في وسط شارع مزدحم، شاشته معه، في جيبه أو حقيبة يده، وحواسه كلها مشدودة إليها. بالتالي، يفقد قدرته على التواصل مع العالم المحيط، يفقد قدرته على الاندماج في المكان الجديد، على الانتباه للتفاصيل واللغة والإشارات الجسدية والروائح وكل شيء، أما إحساسه بالغربة والوحشة فيظهر حينما يفقد هذه الشاشة لسبب ما. الشاشة التي تعيقه عن بناء ذاكرة جديدة، الشاشة التي تشده إلى ذاكرته القديمة المألوفة، وتضع ستارة تمنعه من رؤية الجديد المدهش والتفاعل معه. هكذا يحتل المألوف مكان الدهشة والاكتشاف والمفاجأة، وهي العناصر الأولى المحفزة للإبداع والابتكار والخلق. هكذا، أيضاً، يخف الشوق، ويصبح اللقاء بعد الغياب الجسدي أقل انفعالا، لم يعد اللقاء، بعد غياب سنة، يثير كل مشاعر الفرح التي كان يثيرها سابقاً، فلا دهشة يسببها اللقاء بعد طول غياب، وبلا دهشة لا معنى لأي شيء.