كيف نحيي ذكرى مذبحة "رابعة"

كيف نحيي ذكرى مذبحة "رابعة"

14 اغسطس 2015
+ الخط -
في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، شهدت مصر إحدى أكبر عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين السلميين في التاريخ الحديث، وفقاً لمنظمة هيومان رايتس واتش الأميركية ذات المصداقية الدولية الكبيرة، وقد طالت عمليات القتل مئات من المتظاهرين العزل، ما يجعلها ترتقي إلى ما هو أكبر من مذبحة، وتقترب من مرتبة الجرائم ضد الإنسانية. وتذكر المنظمة في تقديرها ما حدث أن "عمليات القتل لم تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان فحسب، بل إنها ترقى، على الأرجح، إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، بالنظر إلى اتساع نطاقها وطبيعتها الممنهجة، وكذلك إلى الأدلة التي توحي بأن عمليات القتل كانت جزءاً من سياسة تقضي بالاعتداء على الأشخاص العزل على أسس سياسية".
لا يجب أن تمر ذكرى حادثة كهذه مرور الكرام، وخصوصاً في بلد منكوب من بلاد العالم الثالث كمصر، بلد مر بثورة سلمية عظيمة من أفضل الثورات السلمية، انتهت بانقلاب عسكري وقتل مئات المتظاهرين السلميين في الشوارع وسجن الآلاف في المعتقلات السياسية في ظل انتهاكات صارخة للحقوق والحريات وقيم القانون والدستور. وعدلت سلطة الانقلاب العسكري القوانين، لتصادر حق الناس في التظاهر، ولتفتح باب الحبس الاحتياطي للمعتقلين السياسيين إلى ما لا نهاية، كما فتح الباب لاستخدام القضاء بشكل انتقامي، للنيل من المعارضين السياسيين، كما منحت السلطات الأمنية حصانة فعلية على ما ترتكبه من انتهاكات وجرائم.
بحلول نهاية يوم 14 أغسطس/آب 2013، وبعد 12 ساعة من الهجوم المتواصل على مخيمات متظاهرين معارضين للانقلاب العسكري، "كانت الشرطة بالتنسيق مع الجيش قد قتلت ما لا يقل عن 904 أشخاص في أثناء عمليات الفض، 817 على الأقل في ميدان رابعة العدوية في قلب القاهرة و87 في ميدان النهضة في الجيزة، وبينهم سيدات وأطفال، وذلك بعد أن خيم مساندو الرئيس المصري المعزول محمد مرسي في الميدانين، رابعة أكثر من 45 يوماً، معترضين على عزله من منصبه بالقوة".
وذكرت "هيومان رايتس واتش" في وصف ما حدث أن "الحكومة استخدمت القوة غير المتناسبة، وأخفقت في اتخاذ إجراءات لتقليل الخسائر في الأرواح، وأطلقت الذخيرة الحية (عن علم) على متظاهرين عزل، مرتكبة بهذا انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وتشير الطبيعة الممنهجة واسعة النطاق لعمليات القتل العمدي عديم التمييز، مقرونة بأدلة تشير إلى تحسب الحكومة وتخطيطها للانخراط في عمليات قتل جماعي غير مشروعة، أي جرائم قتل، وتطابقها مع نمط ثابت من قتل المتظاهرين، تشير كلها إلى أن الانتهاكات قد ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية".
وسبقت عملية القتل الجماعي هذه، وتلتها أكثر من عملية قتل جمعي لعشرات من المتظاهرين الرافضين للانقلاب العسكري في القاهرة، كما في حادثي الحرس الجمهوري والمنصة في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة، وفي ميدان رمسيس وفي أماكن أخرى في مصر.

وبخصوص المسؤولين عما حدث، عمل تقرير لمنظمة "هيومان رايتس واتش"، صدر بعد عام على المذبحة، على "تحديد المسؤولين الأمنيين والقادة المحوريين الأرفع رتبة في سلسلة القيادة الذين ينبغي التحقيق معهم، ومحاسبتهم فردياً، حيثما توفرت الأدلة على مسؤوليتهم، عن تخطيط وتنفيذ عمليات القتل الممنهج وواسع النطاق للمتظاهرين، أو الإخفاق في منعها"، وقد وضع التقرير على قمة هؤلاء المسؤولين: وزير الداخلية محمد إبراهيم، الذي وصفته المنظمة بأنه من "صاغ خطة الفض وأشرف على تنفيذها"، وأقر بأنه "أمر القوات الخاصة بالتقدم وتطهير" مبان محورية في قلب منطقة رابعة". وقائد الانقلاب العسكري ووزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، و"الذي اضطلع بدور قائد للقوات المسلحة التي فتحت النار على متظاهرين في 5 و8 يوليو/تموز، وأشرف على الأمن في البلاد، بصفته نائب رئيس الوزراء للشؤون الأمنية، وأقر بقضاء "أيام طويلة للتناقش في كل تفاصيل "فض رابعة"، وفقاً لتقرير المنظمة التي أشارت، أيضاً، إلى أهمية التحقيق مع رئيس وقائد القوات الخاصة في عملية رابعة، مدحت المنشاوي، الذي "تباهى بإبلاغ الوزير إبراهيم من منطقة رابعة في صباح 14 أغسطس/آب "سنهجم مهما كلفنا الأمر"، ورئيس جهاز المخابرات العامة، محمد فريد التهامي، وثمانية من كبار مساعدي وزير الداخلية، وثلاثة من كبار قادة الجيش، وقادة مدنيين عديدين، رفيعي المستوى، تستحق أدوارهم في القتل الجماعي للمتظاهرين في يوليو/تموز-أغسطس/آب مزيداً من التحقيق".
وهنا يجب الإشارة لأدوار بعض المسؤولين المدنيين، كرئيس المحكمة الدستورية المعين من الانقلاب العسكري رئيساً للجمهورية عدلي منصور، ورئيس الوزراء المعين من الانقلاب، حازم الببلاوي، والذي قارن، في حديث صحافي، قتل المتظاهرين السلميين في مصر بحرب أميركا في فيتنام، ومستشار الرئيس مصطفى حجازي، والذي كتب كثيراً بعد الثورة عن أهمية قيام تيار رئيسي يضم مختلف الحركات السياسية الرئيسية، ليخرج بعض الانقلاب متحدثاً لوسائل الإعلام الأجنبية، مستخدماً إجادته النسبية اللغة الانجليزية في تبرير المذبحة.
وثمة قيادات جماهيرية وسياسية وإعلامية كثيرة، دعمت الانقلاب العسكري والفض، واستمرت في الحكومة، وفي تولي مناصب سياسية، على الرغم من الجريمة الهائلة التي تم ارتكابها.
ولعل وقوع جريمة ضد الإنسانية في مجتمع علامة على انهيار هائل في منظومة المبادئ والأخلاق السياسية الحاكمة لذلك المجتمع، والتي يُسأل عنها المسؤولون عن دوائر السياسة والحكم والإعلام في المقام الأول، وربما سيأتي يوم يحاسب كل من شارك في هذه الجريمة ولو حتى بالتأييد، سياسياً وجماهيرياً على الأقل، وستتحول الجريمة إلى وصمة عار، كما هو الحال في غيرها من الجرائم ضد الإنسانية.
وفي النهاية، يجب أن نتذكّر الضحايا، مئات الشهداء، وآلاف المعتقلين، وآلاف الأسر والأطفال والنساء والأمهات والآباء الذين تيتموا أو ترملوا أو فقدوا عائلهم وذويهم، وخسروا خسائر لا يمكن أن تعوض أو تنطوي بالنسيان ومرور الزمن. ولعل منع تكرار مثل تلك المذابح والجرائم ضد الإنسانية يتطلب، أولاً، عدم نسيانها والتذكير بها وبمرتكبيها وبضحاياها، خط دفاع أول، وحتى يأتي يوم يتم فيه الاعتراف بها رسمياً، ومحاسبة الجناة، وتعويض الضحايا، وإن كان لا شيء يمكن أن يعوض الضحايا وذويهم.