مسيحيون بجرح نرجسي

مسيحيون بجرح نرجسي

12 اغسطس 2015
+ الخط -
كان أمراً مثيراً للغرابة، ويدعو إلى الاستلقاء على الظهر من شدة الضحك، أن بعض أجهزة الأمن العربية كانت لا تتورع عن اعتقال مسيحيين بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين. وكانت مثل هذه الأنباء مدعاة للسخرية والاستنكار والذهول معاً؛ فهي من عالم اللامعقول، خصوصاً أن الإخوان المسلمين أنفسهم، بحسب اسمهم، لا يسمحون بانضمام غير المسلمين إلى صفوفهم. لكن العسف والقمع والجهل يجعل الزبيب عنباً، أو يحول الفسيخ شربات. لكن، ما كان مثيراً للغرابة في الماضي صار عادياً في هذا الزمان؛ فبعض الشبان المسيحيين باتوا ينضمون إلى داعش، من دون أي غرابة، وها هو شارل حداد من حي الزاهرية في طرابلس يسقط في سورية في أثناء المعارك إلى جانب "الدولة الإسلامية"، ومثله إيلي الورّاق، فضلاً عن شاب مسيحي لبناني كان يدرس في فرنسا، وجندته داعش في صفوفها، ولم يعرف مصيره. 
قبل هذه الحقبة العربية التي يفور الدم في جميع جنباتها وميادينها، أعلنت دولّي حداد، الابنة البكر للرائد سعد حداد (قائد جيش لبنانيّ الجنوبي العميل لإسرائيل) أنها اعتنقت اليهودية (حسبي الله)، وأن ابنتها انضمت إلى سلاح الجو الإسرائيلي (ما شاء الله)، وهي تحذو حذوها كحذو النعل للنعل (على بركة الله). وقرأنا أن مصعب حسن يوسف، ابن أحد قادة حماس البارزين في الضفة الغربية، كان عميلاً للموساد منذ سنة 1996، وتحول إلى المسيحية في سنة 2005. ولو بقي الأمر عند هذا الحد (التحول الديني) لهان الوجد، وكنا اعتبرنا ذلك شأناً عابراً وطبيعياً، وغير جدير بالانتباه على الإطلاق. بيد أن تحوّل مسيحيين، ولو بضعة أفراد، إلى القتال في صفوف داعش، هو العجيب والغريب والمفاجئ، ولا ريب في أنه يحتاج حقاً إلى تحليل وتفسير وتعليل.
لعل كثيرين يرون ذلك رغبة في إيذاء النفس، وهي رغبة منتشرة بقوة في صفوف أبناء المهاجرين الذين عجزوا عن الاندماج الاجتماعي. وتتمظهر هذه الرغبة في التمرد والشكوى وتكسير الممتلكات العامة والسرقة والعنف واللجوء إلى المخدرات، وهي درجة من الدرجات التي تؤدي إلى الانتحار. وربما يرى آخرون في هذه الحالة طريقة في التماهي مع مجموعات ذات مظلومية، أو أنها نوع من الوقوع في غرام الأقوياء.
في فلسطين عرب يكتبون بالعبرية، أمثال نعيم عرايدي وفاروق مواسي وسهام داود وسلمان مصالحة وأنطوان شماس وسلمان ناطور. لكن هذه الظاهرة تعد، أحياناً، نوعاً من التحدي الثقافي، وطريقة في اقتحام الخصم في عقر داره، أي في لغته. واقتحام الفلسطينيين هذا الميدان يشير، في أحد وجوهه، إلى الميل، لدى بعضهم، إلى الاندماج من موقع المظلومية، أو السعي إلى المساواة. لكن هذا الميل وذلك المسعى يصدران عن تناقض الهوية والذات المنشطرة في دولةٍ تعلن عن نفسها أنها ليست دولة للمواطنين العرب، مع أن هؤلاء يحملون جنسيتها.
من دون إيغال في التفسير والتحليل، أرى أننا كائنات ما فتئت تبحث عن هويات، بدلاً من البحث عن الحقيقة؛ هويات تعيد الالتحام إلى الذوات المشطورة والمجروحة نرجسياً، الأمر الذي يبرهن أن شعوب هذه البلاد العربية ما زالت، في أعماق أفرادها، قبائل مهاجرة ومترحلة تبحث عن الاستقرار. وهي في تجوالها بين الأفكار والعقائد والأماكن تنتشي، أكثر ما تنتشي، بالدماء وباختراع الروايات عن "التاريخ العظيم" لهذه الأمة التي تهرّأت، أخيراً، وصارت مجرد هلام أو سديم.