"المُحاسبة" في سورية

"المُحاسبة" في سورية

12 اغسطس 2015
+ الخط -
سمع كثيرون بالجريمة التي ارتكبها الشاب الذي يتربع فوق القانون، سليمان الأسد، حين أطلق النار على ضابط يقود سيارته، لأنه (حسب سليمان) لم يوسع الطريق له . شهد كثيرون الجريمة، وعرفوا القاتل والقتيل، ولست ُ في صدد مناقشتها، ولا إن كان الفاعل سوف يُعاقب. ولكن، ثمة أمر أهم من ذلك بكثير، هو انعدام المحاسبة الحقيقية في سورية. وأعطي مثالاً، من عملي طبيبة عيون ربع قرن في المستشفى الوطني في اللاذقية، فقد تعاقب عليها سلسلة من مدراء الصحة النصابين، بالمليارات، ولم يُحاسبوا ولم يُعاقبوا. بقي الأول مديراً للصحة 23 سنة، وكان يقبض 5% من حصص الأطباء في القطاع العام، قانون ابتدعه لنفسه بمساعدة شلة كانت تساعده. وكان متواضع الحال، ثم اشترى مزرعة بالملايين، وكان يسافر في مهمات طبية سياحية، يقبض عليها بالعملة الصعبة. وبعد ربع قرن، حدثت فضيحة (تجهيزات وسرقات مستشفى طرطوس) ولم يعد ممكناً تغطية ورقة توت الفساد، فبدأت مرحلة المحاسبة الشكلية للمدير، وظل عناصر من جهاز التفتيش المركزي يقصدون المستشفى الوطني، ليحققوا مع العاملين والأطباء والمدير، وعلى الرغم من ثبات تهم الفساد والسرقات على المدير، والثروة الطائلة التي حققها، وعلى الرغم من رحلات الذهاب والإياب لعناصر التفتيش المركزي، فإن أهالي اللاذقية (والشعب السوري) فوجئوا بسفر المدير إلى لندن أربع سنوات، عاد بعدها وكأن شيئاً لم يحصل. وعاد مدير الصحة الذي استغل منصبه لمصالحه الخاصه ومنفعته، ربع قرن، إلى مزرعته في اللاذقية، وكأن شيئاً لم يحصل، والسؤال الذي تفجر عند كثيرين: لماذا لم يُسجن؟ كيف سمحوا له بالهروب إلى لندن وكل التهم تكبله؟ وكيف عاد وكأنه لم يرتكب أي جريمة؟ 
اتبع مدير الصحة الذي استلم بعده أسلوباً في السرقة مختلفاً، ويبدو أن من أسهل الأمور نهب المال العام، فلجان الشراء مع حفنة من الموظفين المنتفعين يؤلفون شلة النصب التي يجيدون تغطيتها والتلاعب بها، وتكررت القصة نفسها، وفاحت رائحة النهب والفساد، إلى درجة لا يمكن السكوت عنها، وبدل عقاب المدير المرتشي، فإنه ترقى إلى منصب دبلوماسي مهم! ومن المفارقة المضحكة المبكية أن الجرائد كتبت، في اليوم نفسه، (حين ترقى المدير المرتشي) أن أحد الموظفين حكم عليه بالسجن بالحبس عدة أشهر، لأنه ارتشى وطلب عشرة آلاف ليرة من مواطن، كي يُسهل له المعاملة.
لا عقاب حقيقياً في سورية للفاسدين، إلى درجة أنه يشيع عند السوريين أن هناك فئة فوق القانون لا يطاولها مهما فعلت، وأكثر المدن السورية فساداً وإنتهاكاً لحقوق المواطن وإهانته في الطريق هي اللاذقية، عاصمة التشبيح. ويمكن لكل لاذقاني أن يستشهد بمئات القصص عن عائلات اضطرت للفرار من سورية، لأن أحد أبناء المسؤولين أراد إقامة علاقة جنسية مع شابة من أسرة محترمة، كما لو أن البلاد والعباد ملكه.
تجد في اللاذقية أشكالاً من جنون السلطة وجنون العظمة، تجد شاباً شبيحاً، يقود سيارة هامر بسرعة جنونية، ويلاحق الفتيات، أو يحلو له أن يتوقف في عرض الطريق، ينهال ضرباً على رجل بعمر والده، لأن مزاجه أوحى له بذلك، أو يتسلى بأن يقصد مقهى رصيف، ويطلب من رواده (وعادة عجائز) أن ينبطحوا تحت الطاولات، ويبدأ بإطلاق الرصاص في كل الإتجاهات، غير مبال إن أصاب رصاصه الطائش أحداً.
لو أن هنالك عدالة حقيقية طُبقت منذ عقود في اللاذقية، ولو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولو كانت الأخلاق أساس توظيف المدراء والعاملين، لما وصلنا إلى هذا الدرك المخزي من الإجرام وانتهاك حقوق المواطن.
لقد بلغ السوري حداً يفوق قدرته على الصبر، وهو يشهد، خلال عقود، انتهاكات أبناء المسؤولين، وكأن الناس بهاليل بالنسبة لهم، ولا ينطق بكلمة، لأن صمغ الخوف ألصق شفتيه ببعضهما، ولأنه لم يجد عدالة نزيهة وحقيقية، بل جرائم الزعران الذين يتربعون فوق القانون يحملونها لأشخاص أبرياء فقراء وضعاف النفوس ويحتاجون المال. تتطلب جريمة سليمان الأسد الوحشية عقاباً صارماً، لأن ثورة الكرامة لم تعد في قمقم، بل انفجر هذا القمقم، وخرج منه مارد الكرامة والعدالة.

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية