الدين والدولة.. حدود علمنة السياسة

الدين والدولة.. حدود علمنة السياسة

07 يوليو 2015
+ الخط -
ليس الدين عامل تفرقة، فليس ثمّة مشكلة بين الدين والمجتمع في العصور القديمة، بل على العكس، طالما مثّل الدين لبنة أساسية في توحيد المجتمعات، في التفاف الجماعة حول الآلهة المقدسة، لكن ذلك النموذج من المجتمعات البدائية، والمنعزلة عن بعضها، تطور وتشابك، فتعقدت العلاقات الاجتماعية والمصالح الاقتصادية، واختلفت بذلك منظومة القيم، والهياكل التنظيمية التي كانت تأخذ شكلاً عمودياً، محدوداً بحدود نفوذ شيخ القبيلة، نحو علاقات قانونية أفقية، تتسّع باتساع سيادة الدولة على أراضيها.
كثيرة الدراسات عن موقع الدين في الحياة العامة، فالدين ليس شأناً فردياً، كما يحاول بعضهم تبسيطه، من أجل ترويج أيديولوجيا فردانية تسمو فيها الأنانية والجشع على ما عداها، لكنه ظاهرة اجتماعية، أي أنه يمارس بشكل جماعي عن طريق الطقوس المشتركة، وله مفرداته الخاصة، وثقافته المنغرسة في أعماق الناس. تلك الأمور في مجملها هي التي تتمايز بها الجماعات الدينية عن بعضها، أي في الفارق بين أنماط التديّن التي تنتج غالباً عن تفاعل معقّد بين المجتمع المحافظ دينياً، والنص الديني وتفسيره، ثم تحويله إلى عبادات وأخلاقيات جماعية. لذا، فإن للدين تأثيراً هائلاً على المجتمعات البشرية، فلزمنٍ ليس بسيطاً كانت للدين قدرة فذّة على تشكيل لحمة اجتماعية، وممّا لا يخفى على كثيرين، أن تلك المقدرة العجيبة على التوحيد، تحوّلت إلى عامل تمزيق، بعد أن انبجست الأديان مذاهب دينية متصارعة.

مثَّل الصراع من أجل الهيمنة على السلطة من أجل احتكار السلطة بين القوى الاجتماعية المختلفة بما تحمله من أفكار، عن إدارة شؤون الدولة، ساحة للمعركة الأساسية بين من يؤمنون بسيادة الدولة، وفي يدهم سلاح العلمانية، ومن يؤمنون بسيادة الكنيسة، وفي يدهم سلاح المقدس، فانتهى الصراع في الغرب بانتصار منطق الدولة، ما أدى إلى إبعاد رجال الكنيسة عن التحكّم بالسياسة، ولضمور التنازع الأهلي بذرائع دينية، لكن هذا الانتصار لم يؤدِ حتى في أشدّ الدول علمانية، لاختفاء الدين من المجال العام، "فالدين لا يبتعد عن الشأن العام. لكن، تقاس درجة علمنة المجتمات بمدى تقلّص وزنه السياسي"، كما يرى الدكتور عزمي بشارة، في كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي". بل إن أهم الفلاسفة ترويجاً للعلمانية أعاد التفكير في أطروحاته، تحت ضغط قوة حضور الدين في المجالين، الخاص والعام، بعد عقود من انتشار الفكر العلماني؛ لما للدين من قوة هائلة على "مخاطبة هواجس الهوية والشقاء والمعنى لدى الإنسان"، فهو، كما يقول عنه أحد الفلاسفة المهتمين بدراسة اللاهوت، "الممهّد الأقوى لتقبّل فكرة الموت"، في وقت لا زال الإنسان يعيش حياته بحثاً عن الخلود. إذاً، لا يموت الدين أو يختفي بفصله عن السياسة، ولا تتراجع أهميته بالنسبة للناس، لكن ما ينحسر ويتراجع تأثير الخطاب الديني المسيّس، ومقدرة رجال الدين على استغلال قداسة الدين لتحقيق طموحات سياسية، وبلعب دور الوسيط بين الله والبشر.
ما يجذبنا للحديث عن العلمانية، والتفكير فيها، وطرح التساؤلات حول تعريفاتها ووظائفها، ليس البحث عن تبرير من أجل "طرد" الدين من المجال العام، على الطريقة الفرنسية الكلاسيكية، أو ما يُعرف بالعلمانية الحادة، أو حتى فكرة دراسة إمكانية استنساخ التجربة الغربية بحذافيرها، بحسب منطق مستشرقين عرب، كارهين ذواتهم، من الذين يجدون أن مشكلاتنا تعود إلى أصل في جينات الفرد العربي، وفي عدم مقدرته على محاكاة الرجل الأبيض، أو لعلّةٍ في الدين الإسلامي، ناسين أو متناسين تلك القرائن التي ساقها أهم فلاسفة الدين عن التشابه بين الأدوار التي يلعبها الدين في حياة المجتمعات.
تُختصر الفضيلة الكبرى للعلمانية بنجاحها في فرض استقلال السياسة عن الدين، وتجريد المؤسسة الدينية من أهم عناصر قوتها، وتسخيرها للدولة، وقد أصبحت هذه الدولة تستمدّ شرعيتها من ذاتها، فلا تبحث لها عن مصدر شرعية من خارجها، أي أن المعركة كانت في الأصل معركة سيادة، بل حتى المعانى الكبرى التي كانت الكنيسة تحتكرها، كالتضحية مثلاً، باتت من عناصر قوة الدولة، وأن الناس يُضحّون بأرواحهم دفاعاً عن الوطن، وليس من أجل مكافآت ماورائية، على عكس ما يحدث في دول كثيرة في المنطقة، حيث تحتل الرموز الدينية الفضاء العام بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، وتحل المليشيات العقائدية مقام الجيش الوطني، بكل خطاباتها المشبعة بدلالات دينية. بكلمة مختصرة، قاد تفوّق منطق العلمانية في الغرب على منطق الكنيسة إلى الإعلاء من قيمة الدولة واستقلالها.
الغرض من طرح العلمانية مروراً رئيسياً نحو الديمقراطية، وحاجة ماسّة لبناء دولة وطنية، ليس إقصاء الدين من حياة الناس، أو سحق الهويات الدينية، بل هو من أجل البحث عن حل لأزمة الدولة العربية التي شارفت على الاضمحلال، بعدما فقدت مقوّمات وجودها، وهي دول، غالباً، لم تحسم أمرها من موقع الدين في الدولة، تاركة لنفسها المجال للحكم باسم الشعب تارة، وباسم الله تارات أخرى.












59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"