البحث عن العدالة الاجتماعية في زمن الثورة

البحث عن العدالة الاجتماعية في زمن الثورة

29 يوليو 2015
+ الخط -
مرت سنوات، منذ صدحت الحناجر المصرية بالشعار، "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" في ميدان التحرير. ومع ذلك، يبدو أن إشكالية العدالة الاجتماعية غابت سريعاً عن الخطاب السياسي، وعن أولويات الحكم في مصر وتونس، كما في غيرهما من الدول العربية. وهكذا يبدو للناظر أن شعار العدالة الاجتماعية طفرة خارجة عن السياقين، السابق واللاحق، للحراكات الثورية.
فليس من المصادفة أن تكون العدالة الاجتماعية شعاراً طبيعياً للثورة، ولا ينبع ذلك فقط من مؤشرات البطالة، خصوصاً عند جيل الشباب. ولا ينبع من انعدام المقومات للاقتصاد المتطور والتنمية، أو من انعدام الثروة والموارد. وعلى الرغم من وجود الفساد وعدم النجاعة البيروقراطية، إلا أنها ليست الإشكالية الأساسية. الإشكالية البارزة للعيان هي التوزيع العادل للموارد، ومن منظور اقتصاد وطني يحقق استقلالية حقيقية. يجد ذلك تعبيره في سنوات طويلة من السياسات الليبرالية، وبعدها النيوليبرالية التي أدت لخصخصة القطاع العام، وإثراء طبقة من رجال الأعمال المقربين من جهاز الحكم. وأدى ذلك إلى عدم مساواة في الدخل وفروق كبيرة بين الطبقات، بحيث تركز الغنى في قمة الهرم الاجتماعي، وحصلت أغلبية المجتمع على الفتات. كما أدت السياسات التحديثية في مصر وتونس إلى تنمية غير متكافئة بين المركز والأطراف، فتركزت فرص العمل والاستثمارات في مناطق معينة كالمدن، وتحديداً العواصم، وأهمل الداخل والأرياف (مثلاً التركيز على الساحل في تونس وإهمال الصعيد في مصر). وتبع ذلك أنماط هجرة إلى المدن، ما ساهم في تضخم القاهرة الديموغرافي والجغرافي. ثم تكررت أنماط التنمية غير المتكافئة داخل المدن نفسها، فنشأت أحياء الفقر وتكاثرت. ودفعت سياسات التخطيط والبناء والاستثمار بالفقراء وبعض أحياء الفقر إلى مناطق أبعد من المركز، بسبب غلاء المعيشة والنقص في فرص الإسكان.
لذا، ليس غريباً أمام هذه الأوضاع أن تتقدم قضية توزيع الموارد سلم الأولويات. وليس غريباً، مثلاً، أن يشير المحللون إلى دور الأطراف في اشتعال الثورة التونسية، قبل انتقالها إلى العاصمة، وإلى الدور الحاسم للاتحاد التونسي للشغل في مساندة الحراك الثوري. لكننا لا نرى تغييراً كبيراً في هذه السياسات الاقتصادية الاجتماعية من الأنظمة التي حكمت منذ سقوط المستبدين. ولا أتحدث، هنا، عن غياب النتائج السريعة، وعن خيبة الأمل التي تنبع من توقعات مبالغ بها في لحظة الحراك الثوري حلاً سحرياً، لكل آفات المبنى الاجتماعي والسياسي المزمنة، بل عن الغياب البادي لقطيعة مع السياسات السابقة. فمثلاً، نرى عودة رجال الأعمال المرتبطين بالأنظمة السابقة، لكن الأنكى من ذلك هو غياب الموضوع، حتى عن الخطاب السياسي الجدّيّ، في ما عدا الهوامش، أو على مستوى الشعارات.

ومرد ذلك أن التطورات التي تبعت الحراكات الثورية في تونس ومصر أدت إلى هيمنة مؤسفة لسياسات الهوية، ومن ثم أجندة مكافحة الإرهاب. ففي مرحلة الصياغة الدستورية والمرحلة الانتخابية، طغت النقاشات حول دور الدين في الدولة (الشريعة في الدستور أم لا، وفي الديباجة (تونس) أم في المتن (مصر)، وبصيغة معتدلة أم سلفية، وهل هناك دور لمؤسسة الأزهر الدينية أم لا، وما هي مصادر الشرعية للتشريع، ودور الدولة في حماية المقدسات وهكذا). وبلغ الأمر من طغيان النقاش على الهوية توظيفه في النقاش حول أمور إجرائية، لا علاقة مباشرة لها بسؤال الهوية. ومن سيئات هذا النقاش أنه فرض استقطاباً بين إسلاميين وعلمانيين، غابت معه الفروق في داخل المعسكرين حول الأمور السياسية والاقتصادية العامة، والتشابه بين بعض التيارات الإسلامية وبعض منافسيهم في السياسات الاقتصادية في الواقع.
وتغيب عن هذا الاستقطاب إشكالية العلاقة بين الهوية وتوزيع الموارد. أولاً، كما أدرك عبد الرزاق السنهوري، مثلاً، أنّ التفسيرات المختلفة للشريعة الإسلامية مرتبطة بتوزيع مختلف للموارد في الحيّز الخاص والعامّ (مثلاً: مع الربا أو ضده، وما معنى الربا: هل هو منع الكسب غير المشروع أو منع الفائدة. أو حقوق المرأة في الوراثة وفي الزواج والطلاق عموماً). ثانياً، النقاش حول الشريعة يلهي عن السياسات الاقتصادية. ففي وقت مدح فيه محللون كثيرون المحكمة الدستورية العليا على موافقتها بين الشريعة وحقوق الإنسان الليبرالية، قامت المحكمة نفسها بحماية السياسات الليبرالية وتقويتها. ولم يقف الدستور الذي أعلن، حتى بداية النصف الثاني من العقد الأول من هذا القرن، الاقتصاد المصري اشتراكياً، حجر عثرة أمام هذه المحكمة الحامية لكبار الملاكين وللاقتصاد "الحر" (وهو ليس حراً، لأن الدولة شريك في تنظيمه وتحديد حقوق القوى الفاعلة في السوق). ثالثاً، يرتبط النقاش الاجتماعي-الديني حول دور المرأة والأقليات وقوانين العائلة بتقسيم لسوق العمل، وبتقدير اقتصادي لقيمة مساهمتهم بالعمل وبتوزيع الموارد من طرف إلى آخر. من هنا قضية تحرير المرأة مثلاً هي قضية مرتبطة بالعدالة الاجتماعية. رابعاً، هناك وهم عند بعضهم أن قوننة أو دسترة الهوية ستؤدي إلى حمايتها من التبعية الاقتصادية والثقافية أمام ضغوط العولمة. ولكن كلمات على ورق لا تعوّض عن ضعف بنيوي في النظام العالمي. خامساً، رأينا أن الوصول إلى طريق مسدود في الصراعات على الهوية تفضي إلى حكومة تكنوقراط في تونس، مثلاً، لكن هذا ليس حلاً، لأن المشكلة ليست في التطبيق، بل ماهية السياسات، والخبراء ليسوا حياديين من الناحية السياسية الاقتصادية.
وفي العام الأخير، طغى النقاش حول الاستقرار ومكافحة الإرهاب، وجديد تجليات ذاك قوانين محاربة الإرهاب في مصر وإعلان حالة الطوارئ في تونس. ولا يخفى على أحد أن مثل هذا الاستقطاب يؤدي إلى هيمنة الخطاب الأمني الذي لا يؤدي فقط إلى إخراس النقد الموجه للمؤسسة الأمنية، وشيطنة جزء كامل من المجتمع، بل يؤدي، أيضاً، إلى شوفينية قومية فجة، كما يحصل في مصر. والحديث عن الاستقرار نفسه، والحرص عليه الذي يتبع خلخلة النظام الاحتماعي والسياسي القائم المترنح تحت ضربات الحراكات الثورية هو عامل حسم في إخماد جذوة الرغبة بالتغيير الاجتماعي الاقتصادي نحو العدالة. فمن ناحية، تهمل هذه الحاجة للتغيير بسبب الأولوية الأمنية والنوع للاستقرار. ومن ناحية أخرى، تمر السياسات الاقتصادية-الاجتماعية التي تقوم بها السلطات الحالية من دون نقد ومعارضة سياسية كافية. إذ يتعمم نموذج القمع على الصراعات التي لا شأن لها بالإرهاب أو بالاسلاميين. فمنع التجمعات المخلّة بالأمن لا تحظر فقط المظاهرات الإسلامية أو السلفية. وقد رأينا، أخيراً، أن المحكمة الإدارية العليا المصرية عاقبت الإضرابات العمالية في قرارها في إبريل/نيسان الماضي. بل استخدمت المحكمة الشريعة الاسلامية لتبرير ضرب الحق العمالي بالإضراب. وجاء القرار في سياق اتهام الحراكات العمالية (زادت في مصر عن 1600 في 2014 فقط) بتعطيل الاقتصاد ومنع الاستقرار.
لغياب العدالة الاجتماعية، تحت وطأة سياسات الهوية والاستقرار، انعكاسات وخيمة ليس آخرها إجهاض التطلعات الثورية واحتمالاتها. ومما لا شك فيه أن تعثّر استرداد الأموال التونسية والمصرية المهربة إلى الخارج، لأسباب داخلية وخارجية، مؤسف، لكن العدالة الاجتماعية تحتاج إلى سياسات متكاملة على الأمد الطويل، تتجاوز مثل هذه الجزئيات. بدون مثل هذه السياسات، لن تخرج مصر وتونس من دوائر التبعية الاقتصادية والسياسية، وبدون ذلك لن تتحقق سيادة الشعب. ومن نافل القول إنه بدون سيادة الشعب لن تتكلل الثورة بالنجاح.