الجزائر وبقايا الإرهاب

الجزائر وبقايا الإرهاب

25 يوليو 2015

قوة من الجيش الجزائري في موقع عمليات أمنية (Getty)

+ الخط -
يؤكد المسؤولون الجزائريون، في كل مناسبة، على أن الجزائر قضت على الإرهاب. لكن، إذا كان ذلك صحيحاً، فماذا نسمي العمليات الإرهابية التي تُنفذ في هذا البلد، من حين إلى آخر، والتي تصفها الحكومة الجزائرية نفسها بالإرهابية؟
من الوهلة الأولى، يبدو أن الموقف الرسمي في غاية من التناقض، لأنه يقول بالقضاء على الإرهاب، في وقت تشهد فيه البلاد عمليات إرهابية نوعية، وإنْ متقطعة. لكن، التمعن في الأمر، والتدقيق فيه يحد من حدة التناقض البادية في الخطاب الرسمي.
يمكن التمييز بين نوعين من الإرهاب: الواسع النطاق والمرتفع الحدة، والمتقطع والمنخفض الحدة والمحدود النطاق. عرفت الجزائر النوع الأول في تسعينيات القرن الماضي، أو ما يعرف بـ "العشرية السوداء" التي عانى خلالها الشعب الجزائري من ويلات الإرهاب والتقتيل الجماعي الممنهج الذي امتهنته الجماعات الإسلامية المسلحة، بشكل غير مسبوق، لا عربياً ولا إسلامياً. إلى درجة أن مصير الدولة الجزائرية كان على المحك، لاسيما بين 1993 و1994. ولكن، بداية من نهاية 1995 بدأت موازين القوى تتغير لصالح الجيش وقوات الأمن، ما سهل إطلاق العملية التفاوضية من جماعات إسلامية مسلحة. ويمكن القول إن ما عرف، فيما بعد، بقانون الرحمة والوئام المدني، ثم المصالحة الوطنية، ما كان يوجد لولا أن الجيش حسم المعركة ميدانياً لصالحه. وعليه، من هذا المنظور، قضت الحكومة الجزائرية على الإرهاب من الفئة الأولى كما قلنا. ولا مجال للمقارنة على الإطلاق بين جزائر تسعينيات القرن العشرين (حتى 1998) وجزائر مطلع القرن الواحد والعشرين.

لكن، ماذا حدث بعد الحد من ظاهرة الإرهاب الواسع النطاق؟ استفادت عناصر إرهابية كثيرة من قانون المصالحة بعد نزع سلاحها، أما البقية فانقسمت إلى فئتين. واصلت الأولى نشاطها الإرهابي بشكل متقطع للغاية، محاولة تنفيذ عمليات نوعية من حين وآخر (مثل العملية التي ذهب ضحيتها 13 عنصراً من القوات المسلحة الجزائرية، أخيراً) حتى تُذَكِّر بوجودها، مستخدمة استراتيجية الكر والفر. لكنها تواجه صعوبات في تحركاتها، بسبب التضييق الممارس عليها من قوات الأمن والجيش التي تراقبها باستمرار، وعمليات التمشيط المتواصلة، لاسيما في المسالك والدروب الوعرة في المناطق الجبلية التي تتخذها تلك الجماعات الإرهابية معقلاً لها.
تكمن أحد الفروق الأساسية بين عمليات هذه الفئة الأولى والعمليات التي كانت تنفذ إبّان "العشرية السوداء" في أن الإرهاب المتقطع يستهدف بالأساس عناصر قوات الأمن ومؤسسات الدولة، بينما كان الإرهاب الواسع النطاق، والمرتفع الحدة، يستهدف رجال الأمن ومؤسسات الدولة، كما يستهدف المواطنين العزل. كما تكمن في لجوء الإرهاب المتقطع إلى العمليات الانتحارية، وهي "تقنية"، لم تعرفها الجزائر من قبل. أما الفئة الثانية، فقد فرت نحو الصحاري ودول الساحل، بسبب الضغط الممارس عليها من قوات الأمن، وكذلك بالنظر إلى التغير في توجهاتها، حيث انتقلت من تصور وطني ضيق، يقوم على تنفيذ عمليات في إطار وطني، إلى تصور عابر للأوطان ("أممية إرهابية") وهذا ما حدث للجماعة السلفية للدعوة والقتال التي أصبحت، فيما بعد، القاعدة في المغرب الإسلامي. فضلاً عن الفراغ في بعض المناطق والدول، خصوصاً الساحل الذي أصبح معقلاً لمختلف الجماعات الإرهابية العابرة للحدود.
ومن ثم، فالحديث عن القضاء على الإرهاب، من دون تحديد مضامين المفردة، فيه مبالغة، وإن كان صحيحاً في جزئه الأكبر. ربما حتى تتضح الصورة أكثر، يمكن القول إن الإرهاب كان تهديداً في الجزائر أمس، لكنه اليوم مجرد خطر لا يرقى إلى مصاف التهديد. وعليه، الحديث عن القضاء على الإرهاب في نسخته الأولى (الواسع الانتشار والمرتفع الحدة) صحيح. أما الإرهاب المحدود الانتشار والمنخفض الحدة فلم تقض عليه الحكومة الجزائرية، ومن المستبعد أن تتمكن من ذلك في السنوات القليلة المقبلة لعدة أسباب. أولها أن قدرات تجديد الخلايا الإرهابية الصغيرة والمتنقلة أسرع من تحرك قوات الأمن للقضاء عليها، خصوصاً مع استفحال ظاهرتي الخلايا النائمة والإرهاب الفردي المعزول. ثانياً، انتشار ظاهرة التطرف الديني، فمع الأعداد المرتفعة من الشباب المتطرف أصبح من الصعب مراقبة سلوكات هؤلاء، لتوقع انتقالهم من مجرد تطرف ديني إلى العنف والإرهاب. ثالثاً، التفاعل بين الإرهاب المحلي والمستورد الذي يخلط الأوراق، ويسمح بتنفيذ عمليات إرهابية بأياد محلية، خُططت ومُولت من خارج الوطن. بمعنى أن هناك انفصالاً بين مختلف مراحل الإعداد لعملية إرهابية وتنفيذها، خصوصاً أن الإنترنت يسمح بالتواصل، ما يوفر عن الجماعات الإرهابية عناء التنقل، وما لذلك من مخاطر عليها. لأنها كلما زادت من التنقل، زادت من احتمالات السقوط في كمائن قوات الأمن أو حواجزها العادية. رابعاً، تزايد بؤر التوتر في المنطقة المغاربية-الساحلية (مالي، ليبياـ، تونس) أوجد فرص عمل جديدة لـ "الشركات" الجهادية المتعددة الجنسية، ما سهل تنقل عناصرها بين مختلف المسارح القتالية، لتدعيم جماعات أخرى أو للراحة بعض الوقت، في انتظار عمليات جديدة. كما أن طبيعتها العابرة للحدود تسمح لها بمخادعة قوات الأمن. فمثلاً الهجوم على أهداف معينة، انطلاقاً من أراضي بلد مجاور (مثال ذلك الهجوم الإرهابي على مركب الغاز الجزائري في منطقة تيغنتورين ليس بعيداً عن الحدود الليبية في يناير/كانون ثاني 2013) يخفف من الضغط على الجماعات النشطة محلياً، ولو إلى حين، ويجعل أجهزة الأمن تركز على المنطقة المستهدفة دون سواها، ولو مؤقتاً.

إذا كان الصراع بين الإرهاب الواسع الانتشار والمرتفع الحدة والدولة (مهما كانت) صفرياً، فالأمر ليس كذلك مع الإرهاب المحدود والمنخفض الحدة، فهو يشبه الجريمة المنظمة، إذ من الصعب، بل ومن غير الممكن، القضاء على الأخيرة، وما يمكن فعله هو الحد منها وضرب الجماعات الإجرامية باستمرار، لتكبيدها القدر الأكبر من الخسائر. هكذا حال محاربة هذا النوع من الإرهاب، فهو لا يضع مصير الدول على المحك، لأنه إرهاب "استعراضي"، يهتم بالرسالة الإعلامية، ووقعها أكثر مما يهتم بقلب موازين القوى (يهتم بالتغطية الإعلامية أكثر مما يهتم بالعملية نفسها). يبدو أنه فقد وجهته السياسية، وأصبح إجرامياً في أحيان كثيرة، ليصبح هجيناً؛ خليطاً من الإرهاب والجريمة. وعكس صفرية الصراع في الحالة الأولى وصعوبة تحمل الصراع فترة طويلة، فإن الرهان الأساسي في الحالة الثانية (الإرهاب المحدود النطاق والحدة) هو الاستنزاف. وهذا يقتضي دائماً وقتاً أطول، حتى يكون له المفعول المرجو. فبعد فشله في صراعه الصفري مع الدولة الجزائرية، لجأ الإرهاب إلى حرب استنزاف محسومة سلفاً، لأن من حسم صراعاً صفرياً لصالحه يمكن أن ينجح في حرب استنزاف، مهما كان أمدها و/أو حجمها، خصوصاً أنها اكتسبت، بحكم التجربة، درجة تحمل عالية. والشيء نفسه يمكن قوله بالنسبة لسقف التحمل الاجتماعي.
خلاصة القول إنه من الحكمة النظر إلى الأمور كما هي، لا كما يجب أن تكون. فلا يصح التقليل من شأن الإرهاب، كما لا يصح تضخيمه، وإنما وضعه في منزلته/درجته المناسبة، لا أكثر ولا أقل. ومن منظور أمني بحت، الأهم في عبارة "بقايا الإرهاب" ليس بالضرورة "بقايا"، وإنما "الإرهاب"، لأنه يتعين مواصلة كل الجهود، وعلى مختلف الجبهات، لمحاربة هذه الآفة التي لا يمكن حسمها بالقوة العسكرية وحدها، لأن اللجوء إلى الأداة العسكرية لمحاربة الإرهاب يعني، أيضاً، فشلاً في التعامل مع قضايا اجتماعية وسياسية في وقت سابق. ذلك أن الإرهاب لا يأتي من فراغ، وإنما يستفيد دائماً من تربة خصبة (سياسية، دينية، اجتماعية، اقتصادية)، فكل بؤر التوتر الحالية (العراق، سورية، ليبيا، مالي) التي تنشط فيها جماعات إرهابية عابرة للحدود لم تفتعلها هذه الجماعات، بل استفادت من انفجارها، حيث استقرت فيها، بعد أن أشعلها غيرها، وما عليها إلا تأجيجها.