القماشة الفسفورية

القماشة الفسفورية

23 يوليو 2015
+ الخط -
وفيما كنت أمشي بمحاذاة السياج، خارجا من حدود بلدتي (بيت نبالا) قضاء الرملة، بعد زيارتي الأولى لها، قلت للصديق، عمر اغبارية، منسق مؤسسة (ذاكرات)، (وهي مؤسسة يهودية عربية تأسست قبل 13 عاماً، وتهدف إلى جلب معرفة النكبة إلى الجمهور اليهوديّ في إسرائيل، إذ معرفة النكبة شرط حتميّ للاعتراف بمسؤولية اليهود عن حصتهم في النكبة الفلسطينية، وهو شرط أساس للمصالحة مع الفلسطينيين مستقبلا. الاعتراف بالمسؤولية معناه الاعتراف بدين اليهود الأخلاقيّ عن عمليات الطرد والتخريب عام 1948، وكذلك اعتراف وتحقيق لحقّ اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بلادهم، وفقًا لقرار الأمم المتّحدة رقم 194)، قلت إنني سأكون عاجزاً عن التعرف على حدود قريتي، حين أمر من هنا في طريقي إلى حيفا أو يافا، فلمَ لا أعلّق شيئا ما على السياج، حتى أراه في أثناء مروري، فأعرف حدود وجغرافية بلدتي من خلاله، لأن ما يسمى (شارع 6)، والذي أقيم على أراضي بلدتي، كسر قلب المكان، وشوّه المشهد الطبيعي لامتداد القرية، ابتهج عمر للفكرة، وانطلق لسيارته ليحضر لي قماشة فسفورية، علّقها عمر محكماً ربطها، تطايرت القماشة مع الهواء. وكان ذلك إشارة إلى تفاعلها مع هدف وجودها، هبطنا تلة قريتي، باتجاه ما يسمى (شارع 6) فرأينا القماشة ترقص. واصلنا رحلتنا باتجاه يافا، وفي أثناء العودة، في اليوم التالي، خففنا من سرعة السيارة، مقابل السياج أعلى تلة القرية، ورحنا نبحث عن القماشة، فإذا بها ترفرف، كأنها تقول لنا: أنا هنا، والقرية هنا، والأمل هنا، والحلم هنا. 
لم يتركني صديقي عمر أغادر، من دون أن يأخذ مني موعداً للتنسيق معه، بخصوص اللقاء مع مسني مخيمي، ليسمع منهم رواياتهم عن فظاعة النكبة، وقصص التهجير والإذلال والموت والعذاب، ثم اصحطابهم بعد ذلك إلى القرية لمعاينة وطن الذاكرة وللبحث عن تفاصيل الحكايات مكانياً، شجرة شجرة ومقبرة مقبرة ونبتة نبتة. تطارد (ذاكرات) ذاكرة الفلسطينيين الذين عاشوا عام النكبة، وما قبلها وما بعدها، وتحثهم وتساعدهم على تدوينها وترتيبها، بحيث تشكل مادة خصبة لعلاقة مقدسة وعميقة بين أجيال فلسطين المتعاقبين وحلم العودة.
يشارك يهود في إدارة نشاطات جمعية (ذاكرات) وفعالياتها، يهود يعتقدون أن عودة لاجئي فلسطين إلى بيتهم وديارهم تشكل أساساً لأي حل سياسي، الأمر الذي يشكل خطراً على مصالح الحكومات والأحزاب الإسرائيلية كافة وسياساتها، بما فيها اليسار الصهيوني التي أجمعت كلها على رفض حق عودة لاجئي فلسطين إلى بلادهم، تنظم (ذاكرات) جولات مشتركة بين اليهود والعرب، لزيارة القرى المهجّرة، مصطحبين بعض عائلات القرى اللاجئين في مخيمات ومدن فلسطين، أو خارج فلسطين. وتحرص (ذاكرات) على اصطحاب أطفال الفلسطينيين وأحفادهم إلى القرى المهجرة، للحفاظ على صحة الحلم، عفياً وشهياً وراسخاً، تستخدم الجمعية أيضا التقنيات والوسائل الإعلامية والفنية والثقافية المختلفة، لتوثيق التهجير وحفظ حكاياته وتفاصيله، كما تشجع اليهود الذين شاركوا (جنود في عصابات الهاغناه وغيرها) في عمليات تعذيب وقتل الفلسطينيين على كتابة مذكراتهم واضحة وحقيقية، والاعتذار علانية أمام جمهور عربي يهودي عن هذه الجرائم، والاستعداد للتطوع في خدمة قضية عودة اللاجئين، وقد استجاب جنود عديدون سابقون، وهم، الآن، أعضاء فاعلون في نشساطات الجمعية.
تستحق (ذاكرات) التشجيع والدعم من طرفنا جميعا، رسميين وأفرادا، فهي بمثابة وزارة للاجئين الفلسطينيين في كل مكان، تحمي مصالحهم، وتذكّر بحقوقهم في المحافل الدولية، وتوثق معاناتهم ورواياتهم.
أدعو كل الأصدقاء الذين يصعب عليهم التعرف على حدود وتفاصيل قراهم المهجرة في فلسطين، بحكم همجية التشويه الصهيوني، وسفالة تخريب معالم وجه المكان والذاكرة، إلى زيارة قراهم، ووضع قماشات فسفورية على أسيجتها المحاذية للشوارع الريئسية المعبدة، للتعرف عليها من بعيد.
ستمتلئ أسيجة تلالنا وودياننا بقماشات فسفورية، سيكون المشهد فسفوريا، دالا على التذكير والتركيز والدعوة للانتباه: هنا سكن بشر يوماً، فالنسيان ممنوع ممنوع ممنوع. هذا ما تقوله القماشة لكل ناظر ومارّ.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.