مصر.. تسوية تاريخية أو انفجار كبير

مصر.. تسوية تاريخية أو انفجار كبير

20 يوليو 2015
+ الخط -
يتجه الوضع في مصر من سيئ إلى أسوأ، في الشهور والأسابيع الأخيرة، وعلى كل المستويات، السياسية الأمنية الاقتصادية والاجتماعية. وما لم يجر العمل، إقليمياً ودولياً، على تسوية تاريخية تستلهم روح ثورة يناير 2011، وما شهده البلد من حراك ومخاض، حتى انقلاب يوليو/تموز 2013، فإن الأمور ستمضي باتجاه انفجار كبير، يصبح فيه المشهد المصري مزيجاً من المشاهد في سورية والصومال، وحتى الجزائر في تسعينيات القرن الماضي.
كان مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة ديمقراطياً ومحقاً؛ لثورة "30 يونيو"، أو بالأحرى الموجة الثورية الثانية للثورة الأم والأصل في 25 يناير 2011، وانخرط فيها الـ75% الذين لم يصوّتوا للرئيس محمد مرسي في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية 2012، إلا أن "الإخوان المسلمين" للأسف لم يستوعبوا الرسالة أو يفهموها، حتى بعدما بانت نيات العسكر في الانقلاب. وكان الذهاب إلى الانتخابات المبكرة في صالحهم تماماً، وفق معادلة رابح أو رابح، كما نصحهم الشيخ راشد الغنوشي وكثيرون غيره. إما الفوز والبقاء في السلطة بتفويض شعبي جديد أو الخسارة والتمسك بالخيار الديمقراطي مع التحلل من السلطة وأعبائها وتحدياتها المرهقة والمعقدة والصعبة.
في المقابل، استغل العسكر تظاهرات يونيو/حزيران 2013، وعن سبق إصرار وتصميم، للانقلاب على كل مكتسبات الثورة، وتجاوزوا المطلب الأساس للتظاهرات، كما الوثيقة السياسية الواقعية التي صاغها، آنذاك، المبعوث الأوروبي برناردينيو ليون، والتي تحدثت عن خروج مشرف للرئيس محمد مرسي، وإجراء انتخابات مبكرة ضمن عملية سياسية تضم الجميع، بما فيهم "الإخوان المسلمين". وبعد ممارسة القمع والتنكيل والإقصاء بحق "الإخوان"، اتسعت الدائرة لتشمل شباب شعلة ثورة يناير ومن أوقدوها، كما كل من رفض ويرفض الانقلاب، أو أخذ البلاد إلى نظام استبدادي جديد، وبتنا، في الحقيقة، أمام عودة لنظام حسني مبارك أو استنساخه، بأبشع ما فيه، حيث التحالف المشين مع رموزه من رجال الأعمال، كما رجال الإعلام الموتورين تجاه ثورة يناير، والمشهد الجديد والجذري الذي فرضته على البلد قبل الانقلاب، بما في ذلك التظاهرات ضد حكم الرئيس مرسي.
على الرغم من الهيمنة الكاملة على السلطة وعشرات المليارات التي تدفقت على البلد من داعمي الانقلاب، والتي لم تذهب إلى خزينة الدولة، وإنما إلى خزينة العسكر، إلا أن هؤلاء عجزوا عن إحداث اختراق جدي، خصوصاً في السياق الاقتصادي الاجتماعي تحديداً، حيث البنى التحتية منهارة، ولا تغيير في التعليم، الصحة أو الرفاه الاجتماعي، بل وصل الأمر إلى انهيار غير مسبوق للجنيه المصري أمام الدولار، وتوقع انهيار اقتصادي شامل في أي لحظة، خصوصاً مع توقف المعونات عن التدفق، بلا حساب وبالهبل، كما اتضح من التسريبات الشهيرة للحكام الجدد.

الآن، وفي ضوء المشهد السابق، والذي يبدو الواقع حتى أكثر سوداوية منه، تنحصر الخيارات بين تسوية تاريخية أو انفجار كبير لا يبقي ولا يذر.
حيد القمع والتنكيل والإقصاء بحق المعارضين، على اختلاف توجهاتهم الإسلامية أو الليبرالية، للأسف، لا يساريين كثر بين المعارضين، وهم تربوا على حليب الاستبداد وهتاف بالروح بالدم. حيّد الساحة السياسية والحزبية الداخلية التي لم تعد قادرة على إنتاج التسوية التاريخية أو رعايتها، وهي التي تتضمن العودة إلى روح وثيقة فيرمونت، أو حتى وثيقة برناردينيو ليون، كما معظم الوثائق الأخرى التي طرحت للهدف نفسه، والتي ستتضمن، بالتأكيد، خروجاً آمناً ومشّرفاً للرئيس مرسي من السجن إلى البيت، طبعاً مع إطلاق المعتقلين، وحرية العمل السياسي والحزبي، ضمن مرحلة انتقالية تتضمن حكومة تشبه حكومة عصام شرف، ومجلس رئاسي ربما بقيادة عسكري آخر، يعمل مع الحكومة على صياغة دستور جديد، وقانون انتخابي جديد، والذهاب إلى حزمة انتخابية كاملة، وفق القاعدة الصحيحة الانتخابات بعد الدستور، وضمن مدى زمني معقول ومريح للقوى كافة، وهي المعادلة التي تم تجاهلها عن عمد من الجيش، كما من "الإخوان"، ما ساهم في إيصال البلد إلى ما وصل إليه.
في ظل صمت الغرب، ولامبالاة واشنطن، أو على الأقل تعاطيها مع الشأن المصري من المنظور الإسرائيلي الأمني والراضي، كل الرضى، عن الجنرال ونظامه، تبقى الرياض وحدها قادرة على الدفع بالتسوية، مع دعمها ورعايتها الأولى للانقلاب على كل المستويات السياسية الإعلامية والاقتصادية، إلا أن الرياض الجديدة المثقلة بأعباء وخطايا سابقة، والمنشغلة بترتيب البيت الداخلي، كما مواجهة التحدي الأساس المتمثل بالهيمنة أو الامبراطوية الفارسية، كما الانتشار الداعشي، تتعاطى مع الملف اليمني أولوية، ومن ثم السوري وحتى العراقي، بينما يبدو الملف المصري مؤجلاً، أو على الأقل غير ملحّ.
إذا ما قررت الرياض يوماً ما التحرك لإنقاذ مصر من قيادتها وأعدائها، فستحتاج حتماً إلى مساندة من الدوحة وأنقرة، أقله لإقناع "الإخوان المسلمين" بأن مطلب عودة مرسي إلى الرئاسة غير واقعي، وأن الانخراط في التسوية يستلزم شجاعة الاعتراف بالأخطاء، على الرغم من المظلومية الكبيرة التي تعرضوا ويتعرضون لها، وستحتاج الرياض حكماً إلى تحييد أبو ظبي عن سياستها والداعمة للانقلابات والثورات المضادة، ليس في القاهرة فقط، وإنما في قوس عربي وإقليمي، يمتد من تونس وطرابلس الغرب، إلى صنعاء شرقاً مروراً بدمشق، وحتى بغداد أيضاً.
للأسف، لا تبدو احتمالات التسوية كبيرة للانشغال السعودي، المثقل بالهموم الداخلية والإقليمية المحيطة، كما للعناد والعجرفة التي يتعاطى بها الانقلابيون في مصر. وعلى ذلك، فإنها، أي التسوية، تبتعد يوماً بعد يوم، بينما يقترب للأسف الانفجار الكبير، يوماً بعد يوم.
إذا ما تفاعل القمع المتعدد المستويات، والفشل المتعدد المستويات أيضاً، مع رفض التسوية أو تقديم التنازلات لإنقاذ البلد من مصيره المحتوم، فسيحدث الانفجار الكبير والمدوّي ربما بعد شهور، وربما بعد سنوات قليلة، لكنه سيحدث حتماً، وسيأخذ أشكالا وتجليات متعددة أيضاً، وربما يسيطر داعش على سيناء كلها، أو على مساحات شاسعة في شمالها، تمتد من قناة السويس حتى الحدود مع فلسطين، بينما ستنهار السلطة في القاهرة، وستضعف سيطرتها على مناطق واسعة من محافظات الجمهورية، وسنكون، للأسف، أمام مشهد مركب دموي وسوريالي في آن، سوري في سيناء صومالي، وربما حتى جزائري في بقية المناطق والمحافظات.
تتعلق نقطة اللاعودة فيما يخص الانفجار بتنفيذ أحكام الإعدام بحق الرئيس مرسي ورفاقه، علماً أننا، الآن، في الدقيقة التسعين في التواضع، والتخلي عنها، أو تأجيل التنفيذ، سيبقي باب التسوية موارباً ولو قليلاً، أما في حالة المكابرة فستضحي التسوية بعيدة جداً، بل ومستحيلة، ويصبح الانفجار للأسف مسألة وقت ليس إلا.
كانت مصر المحروسة، في يناير/كانون الثاني 2011، بحاجة إلى عقد على الأقل، لإصلاح ما دمّره العسكر خلال عقود، وإذا ما حدثت التسوية، فستكون بحاجة لعقد آخر لتحقيق الهدف نفسه، أما إذا لم تحدث، فسيحتاج الأمر إلى عقود كثيرة، وكثيرة جداً للأسف، للعودة إلى صيغة الدولة المصرية، كما عرفناها في العقود الماضية.