تطرّف واعتدال

تطرّف واعتدال

09 يونيو 2015
+ الخط -
ثمّة حاجة إلى إعادة تعريف وتفسير مفاهيم رائجة في عالمنا العربي وبين نخبه السياسية، وأهمهما التطرف والاعتدال، ومعرفة منابعه وأصوله، وعلاقة أفكاره بالواقع، تأثرها به وتأثيرها فيه، وكيف تنمو وتتطور، وكيف ينقلب الاعتدال إلى تطرف ويتحول الشيء إلى ضده، وكيف نجفف منابع التطرف، ونمنعه من العودة ثانية بأشكال أقسى وأعنف وأكثر دموية.
لم تأت الأفكار، يوماً، من نص نظري فحسب، مهما علت مكانته، وإنما من تأويل هذا النص بعد تماسه الواقع. ومحاولة تغييره أو تبريره أو الانقلاب عليه. ومن هنا، لم تكن لتظهر أفكار الخوارج وتأويلهم المشوه للنص القرآني، لولا الفتنة الكبرى. وقس على ذلك، حتى عصرنا الحالي. فالفكر يمتزج بالسياسة اليومية، ويتفاعل مع عوامل الفساد والاستبداد والإقصاء، ويختلط بصنوف المناكفة والقمع والاضطهاد، والرؤية القاصرة للآخرين، ويستولد من رحم مجتمعاتنا مواليد مشوهة.
لنتأمل، معاً، في عناوين هذه المقالات التي كتبت في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وكان هاجسها الأول والأوحد الكفاح ضد الاستعمار والإقطاع، والتي قد يكون كاتبها يسارياً أو قومياً أو إسلامياً، فهي عناوين تشمل، بسقفها، مختلف أصناف الطيف الوطني، فمقال بعنوان "كفاحنا اليوم مع الاستعمار وليس مع الشيوعية"، يدعو فيه كاتبه جميع القوى الوطنية إلى الثورة ومكافحة الاستعمار، وينبهها إلى أننا نواجه عدواً مشتركاً، وواجباً مقدساً، موجهاً دعوته الى كل فئات الشعب من مسلمين ومسيحيين واشتراكيين وشيوعيين. أما مقال "شعب عظيم" فيؤكد فيه، أن المستقبل لهذا الشعب، وليس للحفنة المسترزقة اللاصقة بالاستعمار لصوق الحشائش الصغيرة بالمجاري الراكدة. في حين يدعو، في مقال آخر، إلى إنشاء مدارس للسخط الذي يجب أن يوجه إلى رجال السياسة الذين ترتفع لهم العصا السحرية في دار الحماية (السفارة البريطانية)، وأولاد الذوات الذين هم نتن الأرض ولعنة السماء. في حين تأتي عناوين مقالاته الأخرى لتشي بما فيها، فهي "ضريبة للذل"، " لغة العبيد"، "إلى عبيد فرنسا في العالم العربي"، "أيها العرب اضربوا ضربتكم الحاسمة"، "عدو واحد وجبهة واحدة"، "عبئوا الشعب للكفاح"، "هذا هو الطريق .. حرب العصابات". بل يمتد ذلك ليقول "إن حركتي الماو ماو في أفريقيا، وهوشي منه في الهند الصينية، تهماننا أهمية كبرى، لأنهما تقلمان أظافر الاستعمار وتهدان قوته".
كتبت هذه المقالات وغيرها في ثلاث مجلات أسبوعية، يتم اختيارها عن سعة أفق الكاتب وتعدد علاقاته السياسية، وهي "الدعوة" التي يصدرها الإخوان المسلمون، و"الاشتراكية" التي يصدرها أحمد حسين، و"اللواء الجديد" التي يصدرها فتحي رضوان. وكاتب هذه المقالات هو سيد قطب الذي واجه حبل المشنقة، بعد كتابه الذي أصبح دستوراً لكل حركات التكفير والتطرف في العالم العربي "معالم في الطريق".

كيف انتقل سيد قطب، المعتدل والداعي إلى جبهة وطنية متحدة مع الشيوعيين، والذي وقف مع العقاد ضد الرافعي، حين اعتبر أن لا شأن للإسلام بالأدب والفن، بل وانغمس في السياسة، وكان يحضر بعض اجتماعات مجلس قيادة الثورة الذي عينه سكرتيراً لهيئة التحرير المعنية بوضع الدستور المصري، وهو الموقع الذي شغله الرئيس، جمال عبد الناصر، فيما بعد، وبعد أن ارتكب الإخوان المسلمون خطأهم التاريخي بالموافقة على حل الأحزاب، وعندما اصطدموا مع الضباط الأحرار، لم يجدوا من يدافع عنهم.
يضيق المقام هنا عن البحث في أسباب تحول هذا الاعتدال الى هذا الكم المرعب من التطرف، إلا أن اللافت في الأمر أن هذا لم يحدث، إلا بعد إعدام ستةٍ من مكتب الإرشاد وزج آلاف في السجون. ولم يظهر إلا في مؤلفات قطب التي كتبت في مرحلة السجن، وأسفرت عن تحول داعية الجبهة المتحدة إلى داعية لاعتبار المجتمع الإسلامي مجتمعاً جاهلياً، وإلى حصر المجتمع المسلم بعصبة صغيرة، يدعوها إلى المفاصلة والعزلة والاستعلاء والجهاد بالسيف. واضعاً بذلك المدماك الأول والأساس المتين لقيام الجماعات المتطرفة، والتيار السلفي الجهادي الذي جمع ما بين العقائد السلفية وأفكار سيد قطب، بالتركيز على مفاهيم الحاكمية، والولاء والبراء، واختيار طريق الجهاد للقضاء على المجتمعات الإسلامية المرتدة.
يذكّرني هذا بحفل عشاء عند أحد الأصدقاء في عاصمة عربية، التقيت فيه مصادفة بمسؤول رفيع لأحد الأجهزة الأمنية التي تمسك بمقاليد الأمور، ولا تمر شاردة ولا واردة إلا بعلمها. دار نقاش بينه وبين بعض الحضور حول التيار المعتدل في الإسلام السياسي. كان جوابه اللافت للنظر، أن هؤلاء أكثر خطراً على النظام من المتطرفين، فالمتطرف يسهل عزله وضربه وملاحقته، أما هؤلاء، والكلام له، فهم يتسللون ضمن النسيج المجتمعي، وتصعب ملاحقتهم وعزلهم.
يأتي هذا الحديث في ظل المتواليات الهندسية لأحكام الإعدام في مصر، وفي ظل الأخبار المقلقة عن جنوح مجموعات شابة نحو التطرف، رد فعل على السياسات التي تدفع مصر والأمة العربية نحو دوامة مستمرة من العنف، ولعل أمثال هذا الضابط وهؤلاء القضاة وأقرانهم في الدول الأخرى الذين مزجوا ما بين خبرة الاضطهاد والاستبداد والفساد وإقصاء الآخرين، مغلفين ذلك بشعارات مختلفة طائفية أو مذهبية أو وطنية ويسارية. إنما هم، في حقيقة الأمر، جنود مجهولون في داعش وسواها، يمهدون بتلك الممارسات والسياسات الطريق لنسخة ربما تكون أكثر تطرفاً مما نشهده حالياً. وهنا، تبرز مسؤولية خاصة على النخب السياسية التي تشهد تآكل الدولة العربية المعاصرة، وتبرّر تصرفات السلطات الحاكمة وتسوغ لها أفعالها، وعلى القوى الأخرى الصامتة عمّا يجري لغيرها، أو حتى التي تعارضه بخجل شديد، فهي جميعها مسؤولة ومتواطئة في استمرار دوامة الاضطهاد والاستبداد والعنف والتطرف في كل دول المنطقة، وفي امتدادها واتساعها مستقبلاً.
34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.