سوسة المحروسة بناسها

سوسة المحروسة بناسها

01 يوليو 2015

ورود لضحايا الجريمة الإرهابية في شاطئ سوسة (30 يونيو/2015/Getty)

+ الخط -
سوسة جوهرة السّاحل التونسي ودرّة المتوسّط وقِبْلَة السوّاح والعارفين والمريدين على مرّ الزّمان، مدينة تشعّ ببهائها، وتشدّ إليها ملايين الزوّار والمحبّين الذين تعلّقوا بطقسها الجميل وموقعها الأخّاذ وشواطئها الرّائعة، وأسوارها الشّامخة وتقاليدها العريقة. وأنت تدخل أبواب المدينة، يأخذك عبق التّاريخ إلى حقب ذهبيّة شتّى، فمن هنا، مرّ الرومان والإغريق والبيزنطيّون. وههنا شيّد الأغالبة حصون أمجادهم العالية، وهنا، استقرّ الموريسكيّون، وطاب المقام بأهل الأندلس، بعد أن فرّوا من ظلم ملوك قشتالة. وهنا، ألّف يحيى بن عمر كتابه (أحكام السوق) الذي يعدّ أول كتاب في العالم الإسلامي تناول أحكام التجارة ونظم المعاملات المالية في الأسواق، وألقى دروسه في النّاس، وعلّمهم شؤون دينهم ودنياهم، وتحلّق من حوله طلاّب العلم والفقهاء والمرابطون الذين كانوا يأتون من كل فج عميق، يقصدون الجامع الكبير للاستزادة بأسباب المعرفة والتمكّن من مفاتيح العلوم. 

وفي سوسة أيضاً، استقرّ الرّجل الصّالح أبو جعفر الآربسي، فتسمّى شاطئ المدينة باسمه، وتعلّقت القلوب بمقامه استحضاراً للذّكرى وطلبا للتّقوى والسكينة. وفي سوسة المحروسة، تُمحى الحدود بين الأعراق وبين الأديان وبين الثّقافات وبين الألوان. ففي هذه الرّبوع، تجد الأسمر والأشقر والأبيض وداكن البشرة، وتجد العربيّ والبربريّ والإفرنجيّ، والمتديّن وغير المتديّن، والمسلم وغير المسلم، وتلتقي هنا أفراداً وجماعات من كلّ جهات الجمهوريّة، وتجد في المدينة الموسرين وأصحاب الدّخل المتوسّط، ومن قلّت ذات يدهم، وفيها من النّاس السلفيّون والمعاصرون والحداثيّون والتقليديّون، وفيها من الطّيف السياسي أحزاب شتّى ومذاهب عدّة، والجميع يتعايشون، ويتواصلون في غير تنافر، ويتجادلون في غير عداوة، ويتآزرون ويتزاوجون ويتراحمون، ويتبادلون الهدايا ويتزاورون، ويجسّدون خير مثال للاجتماع المدنيّ المتآلف. فالمشهد العمرانيّ والحضاريّ في سوسة يخبرك بمدينة نموذج في التّآلف والتّثاقف والتّعايش السّلمي بين ساكنيها وزائريها، حتّى إنّها أشبه بالمدينة الفاضلة أو المدينة الحالمة، ففيها يحلو المقام ويتحقّق الإلف، وتتأكّد أسباب السّعادة. وأغلب أهل المدينة يحبّون العمل، ويبذلون الجهد حتّى تظلّ سوسة واحة سلام وأرض عطاء، ورافداً من روافد الإبداع الفنّي والفعل الاقتصاديّ في تونس، وقد حافظت المدينة على تماسك نسيجها الاجتماعيّ وحيويّة دورها في نهضة البلاد، على مرّ التّاريخ. فلم تمنعها غوائل الدّهر ومكائد الغزاة من المساهمة في صياغة المشهد الحضاريّ في أرض الخضراء.
وما زلت أذكر كيف هبّت المدينة لنصرة الثورة، وما زالت راسخة في ذاكرتي مشاهد المواجهات بين طلبة جامعات سوسة وأعوان النّظام البائد، وما زالت في ذهني صور المظاهرات السلميّة لأهالي المدينة في طلب الحرّية والعدالة والحقّ في التّشغيل ومقاومة الفساد. وما زلت أذكر كيف هبّ شباب المدينة في كلّ أحيائها وضواحيها وقراها لحراسة جوهرة السّاحل، وصيانة مكتسباتها من عبث المفسدين، فرابطوا يحرسون مجدها ويحمون عزّها، صباحا ومساء، ولم يثنهم برد اللّيل القارس، ولا الخوف من عصابات المخلوع وأتباعه.
عشت في سوسة عشرين سنة ويزيد، بين دراسة وبطالة وعمل، ولم أشهد فيها تنازعا بين الناس على أساس العرق أو الطائفة أو العشيرة أو اللهجة. بل رأيت الوئام غالباً وروح الدعابة والابتسامة حاضرة، ومظاهر التعايش بين الناس كثيرة. تعج ساحة الجامع الكبير بالوافدين، يأتون من كل حدب وصوب، ومن كل دين وملةٍ، ليشهدوا جمال العمارة الإسلامية، ويزدحم الناس على حانوت باسكال اليهودي، ليشتروا الفطائر والحلويات العربية، ويستلذوا شرب عصير الغلال المعتق، وأكل المرطبات الشامية عند محل "عم سالم". هنا، يتغنى الشباب بأهازيج الثورة، وبأهازيج فريق المدينة لكرة القدم، ويرسمون اسمه على صخرة عالية في قلب شاطئ "أبوجعفر"، ويستسلم المصطافون لأشعة الشمس، ولمتعة البحر ونعومة الرمال، ويتمشى المحبون على "الكورنيش" صباح مساء، وتسمع هنا عبارة "أنا" باللهجات التونسية المختلفة من قبيل : "آني، و"أني" و "آنا" و "ناي"، والكل يتعايش في سلام وأمان.
فجأةً، يأتي من خارج التاريخ رجل، يحول فرحة المدينة واحتفالها بالصيف، إلى مأتم، يروّع الزائرين، ويقتلهم بدم بارد، ويرى نفسه، إذ يقتل من يقتل، يتعبد بمن يقتل، متناسياً أن قتل المستأمن لا يجوز، وأن إيذاء أهل الكتاب لا يجوز، وأن اغتيال النفوس البريئة لا يجوز...، وأن الله خلق الناس ليتواصلوا، ويتعارفوا، ويختلفوا، ويتنافسوا، ولم يخلقهم ليتناحروا ويتحاربوا... نسي المتطرف/ الضحية مائة آية ويزيد تحث على الملاينة، وعلى المسامحة، وعلى المجادلة بالتي هي أحسن، وأعمل في الناس القتل، فهزت فرقعات "الكلاش" قلوب الناس، وأفسدت عليهم متعة التثاقف والتعارف واللقاء إلى حين. وكان المتطرف، إذ يفتك بضحاياه من الأبرياء، يروم القضاء على نمط مجتمعي تونسي، يتميز بالتنوع والانفتاح والوسطية، وينبني على الحرية والتعددية وحب الحياة. لم يكن يروق للمعتدي وأعوانه أن يروا تونس مختلفة، ولم يكن يروق لهم أن يصبح البلد واحة للديمقراطية والسلام في أرض العرب، فالديمقراطية في نظر الغلاة كفر، والحرية باعتقادهم بدعة.
من هنا، اختار المتطرف أن يرعب الناس، فيبث فيهم الخوف بدل السكينة، والفزع بدل الطمأنينة، ناشراً ثقافة الموت بديلاً عن ثقافة الحياة. وظن المدينة ستصبح منكوبة، والخوف سيظل سارياً. لكن هيهات. تجري إرادة الحياة بما لا تشتهي إرادة الترهيب، ففي اليوم نفسه للمذبحة النكراء، خرجت سوسة عن بكرة أبيها مُدينة الإرهاب، وملأ الناس الشواطئ ليل نهار، يتغنون بالسلام وبحب البلاد، وبعشق الحرية، واحتفلوا، في اليوم التالي، بزواج سائحين بريطانيين على شاطئ "أبي جعفر". إنّه شعب يحب الحياة، وعبثا يحاول الغلاة ترهيبه.
ستبقى سوسة تنشر ألواحها على تونس كلّها، وتفتح ذراعيها للعالم، وتتوسد في طمأنينة وخيلاء ساحل المتوسّط، شامخة بأمجادها، عصيّة على الظّلم، منتمية إلى عصر الحداثة، راسخة القدم في تاريخ عريق وحضارة رائدة، متأهّبة لمزيد من الإبداع والتألّق، بفضل سواعد أبنائها وبناتها وعقولهم، وجهود أهاليها ومحبّيها، ستبقى منارة مشعّة على الدّوام، وقلعة للعلم والمعرفة، وموقعا مهمّا من المواقع السّياحية الرّائعة شرقا وغربا.
حمى الله سوسة وزادها مجداً على مجد، وبهاء على بهاء.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.