"جزر أصفر" في وجه إسرائيل

"جزر أصفر" في وجه إسرائيل

04 يونيو 2015

نشطاء في الدنمارك في وقفة داعية لمقاطعة إسرائيل (30مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
شهد سوق الخضار المركزي، في العاصمة الأردنية عمّان، قبل أيام، حادثة ليست فريدة من نوعها، لكنها ذات دلالة عميقة على وجود حس شعبي عميق معاد لإسرائيل، وكل ما يتعلق بمنتجاتها. كان ثمة أفراد من حملة تسمي نفسها (أين المنشأ) أعلنوا عن اكتشافهم كميات من الجزر المستورد من إسرائيل في السوق، مغلفة بعبوات كتب عليها بلد المنشأ من "إسرائيل". وعلى الفور، التقى أعضاء الحملة نقيب تجار الخضار والفواكه، سعدي أبو حماد، الذي حيا جهود الحملة بالتأكد من بطاقة المنشأ على البضائع، مؤكدا "مقاطعة النقابة للكيان الصهيوني ووقوفها ضد استيراد أية منتجات منه".

تهدف حملة (أين المنشأ) إلى تجريد المتاجر الأردنية من الفواكه والخضار القادمة من إسرائيل، والتي أطلقتها حركة الأردن تقاطع (بي دي إسBDS الأردن)، وهي تعتبر نفسها جزءا من الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل، أو حسب التعبير الإسرائيلي: "نزع الشرعية" عنها. وهي تستهدف مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، حتى تنصاع للقانون الدولي بالكامل وتلتزم بحقوق الشعب الفلسطيني، وتعرف عالمياً بحركة Boycott Divestment and Sanctions أو اختصارا "BDS".

ينظر كثيرون باستهانة لما يمكن أن تفعله حركة كهذه، في ظل التمدد الصهيوني في العالم الذي يوفر غطاء "شرعيا" لنشاطات إسرائيل، كدولة أبرتهايد، تحتل شعبا آخر، وتنكّل به، وتحاول أن تلتف على كل ما تواضع عليه العالم الحر، من قوانين تحمي الإنسان، من بطش أخيه، مدعومة من الدول الأقوى في العالم التي تشهر "سيف" الفيتو، أمام أي قرار أممي، ينال من الدولة المدللة، غير أن "قنبلة" الفيفا والتهديد بطردها منها جعلت إسرائيل تحبس أنفاسها، وإن كانت على ثقة بأن قرارا كهذا لن يمر، ولكن مجرد طرحه في هذا المحفل الرياضي الدولي يعني أن ثمّة "كرتا أصفر" رُفع في وجه إسرائيل، ما يؤكد أن ملف القضية لم يطو بعد، خصوصاً وأن ثمة لجنة دولية من الفيفا والفلسطينيين والإسرائيليين شكلت لتنفيذ المطالب الفلسطينية التي قايضها الوفد الفلسطيني، بسحب اقتراحه قبل التصويت عليه بدقائق.

يشكل "الكرت الأصفر" الذي رفع في وجه إسرائيل اختزالا ذكياً لحملة البي دي إس، التي استفزت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قبل أيام، فقال في جلسة حكومته: "نحن موجودون في ذروة صراع كبير يجري ضد دولة إسرائيل، حملة دولية لتشويه سمعتها (!).. هذه حملة نزع شرعية ضد إسرائيل، ترتبط بأمر أعمق بكثير موجه ضدنا، ويريد أن ينزع مجرد حقنا في أن نعيش هنا!" رسالة الحملة التي تؤتي أكلها على غير صعيد، وصلت، بشكل مؤلم، إلى إسرائيل، وهي تعرف أن ما جرى هو البداية فقط. ولهذا، يقول نتنياهو: "لا أوهم نفسي في أن هذه الجهود ستتوقف. سيتعين علينا العمل في جبهة واسعة جدا، لن نستسلم للحبكات. وعليه، فيجب أن نسجل إنجازا مهماً. ولكن، يجب أن نسجل أيضا أن هذه علامة طريق في حملة طويلة"، والحقيقة أن هذا ليس رأي نتنياهو فقط، فهو رأي طيف واسع من الإسرائيليين، مسؤولين وكتابا وصحافيين، فقد تناول رئيس "الدولة" العبرية، رؤوبين ريفلين، الدعوة لفرض المقاطعة على مؤسسات أكاديمية وبحثية في إسرائيل، قائلا: "على العالم العلمي أن يقتلع بشكل فوري كل محاولة لتسييس العلم. فهذه المقاطعات إهانة لمبدأ الحرية الأكاديمية ومصيبة للعلم". تعبيرات ريفلين هذه تحمل "ألما" عميقا من الإنجازات "الرمزية" التي حققتها حملة المقاطعة على الصعيد الدولي.

وفق موقعها، انطلقت حركة المقاطعة عام 2005 استجابة لنداء مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، أو نداء BDS الذي أصدرته غالبية من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، ويطالب بتطبيق إجراءات عقابية ضد إسرائيل على شكل المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، حتى تنصاع انصياعاً كاملاً للقانون الدولي والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وتحديدا حتى تلتزم بتطبيق ثلاثة شروط، تمكن الشعب من تقرير مصيره، هي: إنهاء احتلالها واستعمارها كل الأراضي العربية، بما في ذلك تفكيك الجدار والمستعمرات. تحقيق المساواة الكاملة لفلسطينيي الـ48. عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجِّروا منها بموجب قرار اﻷمم المتحدة رقم 194.

صدر هذا النداء في 9 يوليو/تموز 2005، أيْ في الذكرى السنوية الأولى لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بإدانة الجدار الاستعماري، بل الاحتلال الإسرائيلي برمّته، وَقّع عليه أكثر من 170 من القوى والفعاليات والأحزاب والائتلافات والمؤسسات الفلسطينية في الأرض المحتلة وأراضي الـ48 والشتات، ممثلة بذلك غالبية المجتمع المدني الفلسطيني في كل أماكن وجوده.

في عام 2008، وفي المؤتمر الوطني الأول لـBDS، تشكلت اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وهي أكبر ائتلاف مجتمع مدني فلسطيني، وهي مرجعية حركة BDS العالمية وقيادتها. وتستوحي الحركة عملها من عقد من النضال الفلسطيني، بما فيه المقاطعة، ومن الدور التاريخي الذي أداه المجتمع الدولي لنصرة شعب جنوب أفريقيا في نضاله ضد نظام الأبارتهايد، من خلال أشكال مختلفة من المقاطعة.

أما الإجراءات العقابية التي طالب نداء BDS بتطبيقها فهي: المقاطعة: الامتناع عن شراء البضائع الإسرائيلية والدولية الداعمة لدولة الاحتلال، وإيقاف تداولها في الأسواق المحلية والعالمية، وقطع العلاقات مع الشركات والمؤسسات الإسرائيلية، بما فيها الرياضية والأكاديمية والثقافية. سحب الاستثمارات: سحب التمويل من الشركات الإسرائيلية والشركات الدولية الداعمة لدولة الاحتلال، عبر بيع أسهمها والامتناع عن الاستثمار فيها. فرض العقوبات: إجراءات عقابية تتخذها الحكومات والمؤسسات الرسمية لرفض ممارسات الدولة المقاطَعَة ولمحاسبتها، والضغط عليها للالتزام بالقانون.

إنجازات الحركة العملية لا تتناسب مع عمرها، لكنها بدأت تضرب العصب الحي في إسرائيل، فهي تعبير عن "حرب" من نوع آخر، تشنها الشعوب التي يئست من جدية الأنظمة، خصوصاً العربية، في محاربة العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وبقية شعوب العرب، وهي تلقى دعماً لا يستهان به من شعوب العالم. ولهذا، بدأت تصنف خطراً استراتيجياً على إسرائيل، يكتب يوعز هندل، في صحيفة يديعوت أحرونوت، يوم 2 /6 /2015: "المشكلة الأكبر مع حركة BDS أن الحديث لا يدور عن كفاح مسلح، بل عن كفاح في سبيل الوعي. حرب غير متماثلة على الرأي العام، على الشرعية ومعدلات التأييد، إن نجاح الحركة هامشي بتعابير اقتصادية، لكنه ذو مغزى في أنه يخلق عالماً افتراضيا فيه الخير هو الشر والعكس"، على اعتبار أن ما تفعله إسرائيل هو الخير. ويكتب حامي شيلو، في اليوم نفسه في "هآرتس"، "مقاطعو إسرائيل يستطيعون تسجيل التالي: من مجرد قلق أو خطر، تحولوا مثل إيران وحزب الله إلى تهديد وجودي حقيقي".

إذًا، ليست معركة "نزع الشرعية" عن إسرائيل حملة علاقات عامة، بل هي تهديد وجودي لدولة الاحتلال. ولهذا، وصفها الدكتور صالح النعامي بأنها نوع من "الجهاد الأكبر" ضد الاحتلال، ويتناسب هذا الوصف، مثلا، مع احتفال جماهيري كبير، شهدته مدينة الكرك، جنوب الأردن، بإعلانها مدينة خالية من البضائع الإسرائيلية، وليس من الجزر الإسرائيلي "الأصفر" فقط.