الانتخابات التركية… نصف انتصار ونصف مفاجأة

الانتخابات التركية… نصف انتصار ونصف مفاجأة

14 يونيو 2015

أنصار حزب الشعوب الديمقراطي الكردي يحتفلون بنتائج الانتخابات(8يونيو/2015/Getty)

+ الخط -
نصف انتصار، وربما انتصار بطعم الخسارة، وحتى بطاقة صفراء من الجمهور التركي لحزب العدالة والتنمية. هذه المصطلحات كلها مناسبة لتوصيف النتيجة التي حققها الحزب في الانتخابات العامة الأحد الماضي. ومع إهمال للتقدم الملحوظ لحزب الحركة القومية، والتراجع الطفيف لحزب الشعب الجمهوري، بدا التركيز كبيراً، وحتى مبالغاً فيه، تجاه النتيجة التي حققها حزب الشعوب الديموقراطي، الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، ووصلت المبالغة إلى حد وصفه بحزب المهمشين في إنكار للحقيقة، وإجحاف بحق الحزب الذي مثل بحق مهمشي الجمهورية الأتاتوركية، بمن في ذلك الأكراد أنفسهم. وهو، بالتأكيد، حزب العدالة والتنمية بمسمياته المختلفة طبعاً، بينما بدت المفارقة في تحالف، أو تفاهم، حزب الشعوب مع حزب الشعب الذي مثل حاضنة تاريخية للعسكر وانقلاباتهم، واضطهد واستبد بالشعب كله ثمانية عقود تقريباً. 
إذن، نال حزب العدالة والتنمية 41% من أصوات الناخبين، متراجعاً 5 نقاط عن آخر اختبار ديمقراطي خاضه، أي الانتخابات المحلية العام الماضي. وبالطبع، لا يمكن إنكار التراجع الكبير الذي أفقد الحزب الغالبية البرلمانية، ولكن، لتفهمه وليس لتبريره، يجب وضعه في سياقه، بل سياقاته الصحيحة.
ليس مفاجئاً أبداً أن يتراجع حزب العدالة والتنمية، بعد أكثر من عقد على وجوده منفرداً في السلطة، وعلى الرغم من النقلة النوعية التي أحدثها للبلد، داخلياً وخارجياً، إلا أن نزوع فئة أو شريحة أو حتى شرائح اجتماعية للتغيير أمر طبيعي ومتوقع، وقبل كل شيء ديمقراطي تماماً.
حزبياً، أيضاً، نحن أمام حزب غادره زعيمه ومؤسسه ذو الكاريزما والحضور، وأكثر من ربع نواب الدورة الأخيرة، حسب اللائحة الداخلية الصارمة للحزب، التي تمنع الترشّح أكثر من ثلاث دورات، والتي لم يسع أحد لتغييرها أو تفصيلها على مقاس هذا وذاك. وببساطة، نحن أمام مرحلة إحلال وتجديد، يعيشها الحزب يضخ عبرها دماء جديدة في شرايينه. ومع ذلك، وحتى مع التراجع الحاصل، ما زال الحزب في موقع الصدارة، وكان وما زال العمود الفقري للمشهد السياسي والحزبي في البلد.
في السياق، أو المنحى السياسي للتصويت، نحن أمام أمرين مهمين، لا يمكن تجاوزهما، ثمة برود أو عدم حماسة، وحتى رفض من الناخب التركي، ليس لفكرة كتابة دستور ديمقراطي عصري جديد، وإنما لتحول النظام البرلماني إلى رئاسي، مع الانتباه إلى أن هذه الفكرة غير مقبولة، حتى من الرئيس السابق، عبد الله غول، ونائب رئيس الوزراء، بولنت أرينتش، وحتى أحمد داود أوغلو نفسه غير متحمس لها. ولذلك، ليس مفاجئاً أن ينتقل عدم الحماسة لها إلى جمهور ناخبي الحزب، وحتى الجمهور التركي بشكل عام، خصوصاً في ظل القصف الإعلامي الشديد ضدها من تحالف الأضداد، فتح الله غولن والنخبة العلمانية الأتاتوركية، الباحث عن إسقاط حزب العدالة بأي ثمن وأي وسيلة.
سياسياً أيضاً، دفع الحزب الحاكم ثمن قراره القيادي، وحتى التاريخي، وإبداء أردوغان شخصياً حس الزعامة المطلوب، من أجل حلّ الأزمة الكردية، أو ما يعرف هنا بعملية التسوية. القرار التاريخي الذي شكل أول افتراق كبير وجدي مع جماعة غولن التي وصل بها الغرور إلى حد استدعاء مدير المخابرات في فبراير/شباط 2012 للتحقيق، بعدما أرسله رئيس الوزراء المنتخب إلى أوسلو، للتفاوض مع ممثلين عن عبد الله أوجلان. وبينما أظهر حزب الشعب برودا ولامبالاة تجاه العملية وتهرّباً من اتخاذ موقف واضح منها، لم يخف حزب الحركة القومية رفضه القاطع لها، وإصراره أو تمسكه بالحل العسكري، وهو ما يفعله بعض متشددي جبل قنديل.
لا يمكن إنكار حقيقة أن حزب الشعوب هو الفائز الأكبر في الانتخابات، والمفاجأة ليست بتجاوزه نسبة الحسم، وإنما بحصوله على الـ 13 بالمائة، إلا أن تلك قمة جبل الجليد فقط، والمبالغة في التعاطي مع تجاوز الحزب النسبة، بل وتصويره وكأنه حزب المهمشين فيه، تجاوز لحقيقة الحزب نفسه، كما للوقائع الانتخابية، بما في ذلك خلفية أو مصدر الأصوات التي سمحت له بتجاوز نسبة الحسم.

اتبع حزب الشعوب خطابين انتخابيين مختلفين، أحدهما موجه لجمهوره في المناطق الكردية شرقاً، وآخر للجمهور التركي، أو بالأحرى جمهور حزب الشعب غرباً تجاه الأكراد. اتبع الحزب خطاباً شبيهاً تماماً بالذي اتبعه أيام أزمة كوباني، خطاب شوفيني متعصب، فيه اتهام للحكومة التركية بعدم المبالاة تجاه الأكراد في سورية، وحتى التواطؤ مع داعش ضدهم، واتهامها بالمسؤولية عن تباطؤ أو تعثّر عملية التسوية، على الرغم من أن آخر محطاتها كانت مطالبة عبد الله أوجلان حزبه بعقد مؤتمر استثنائي، لاتخاذ قرار تاريخي بإلقاء السلاح، الأمر الذي عجز عنه الحزب، كما ديمرطاش نفسه، بعدما تحداه رئيس الوزراء، أحمد داود أوغلو، أن يفعل.
أما تجاه الجمهور التركي، فاتبع الحزب خطاب الكراهية تجاه الرئيس أردوغان، وخاطب تحديداً الشريحة المؤيدة للحزب الجمهوري اليساري، والتي تصل نسبتها إلى الربع في أحسن الأحوال، وهو فاز أو جرف ثلاثة إلى أربعة بالمائة فقط من الأصوات، أساساً بفضل الحشد الإعلامي لتحالف الأضداد من الأتاتوركيين والغولنيين، والقياس مع الفارق، لكنهم فعلوا معه ما فعلوه نفسه، مع أكمل الدين إحسان أوغلو، عندما رشحوه أمام أردوغان في الانتخابات الرئاسية، بحثاً عن أي شخص يمكنه هزيمة خصمهم أو إيقافهم. والآن، فعلوا الشيء نفسه تقريباً، ومع اليأس من إمكانية انتصار حزب الشعب، أو تشكيله بديلاً جدياً لحزب العدالة، قرروا دعم حزب الشعوب، ليتجاوز نسبة الحسم، ومنع الأول من نيل الثلثين، أو حتى الغالبية اللازمة للحكم منفرداً.
فكرة أن حزب الشعوب يمثل شرائح المهمشين والمستضعفين غير دقيقة، أو مبالغ فيها، وطرحها أساساً الكاتب مراد يتكين-راديكال، وآخرون من اليساريين، بغرض تلميع الحزب، ولا أعرف كيف يمكن لحزب يتماهى مع الحشد الشعبي الكردي السوري، المتواطئ مع نظام بشار الأسد، أن يكون حزباً للمهمشين، ولا أفهم كيف لحزب يتساوق سياسياً مع حزب الشعب، المستعد للانفتاح وصنع السلام مع بشار الأسد، أن يكون حزباً للشرائح المضطهدة، ولو كان الحزب في السلطة منفرداً أو متحالفاً مع حزب الشعب، لتعاطى مع نظام الأسد، تماماً كما روسيا أو الجزائر، أو نظام عبد الفتاح السيسي في أبسط الأحوال.
حزب المهمشين بامتياز هو حزب العدالة والتنمية، وهو الوحيد الذى يملك حضوراً فى الولايات كافة، في مقابل غياب لحزب الشعب عن 33 ولاية، وحزب الحركة عن 45 ولاية، وحزب العدالة هو الوحيد الذي لديه نواب من مختلف الأعراق والاتجاهات، بمن فيهم الأرمن طبعاً، ودفاع حزب الشعوب عن حقوق المثليين لا يحوّله، بالتأكيد، إلى حزب للمهمشين والمستضعفين.
عموماً، أفرزت نتائج الانتخابات واقعاً جديداً في تركيا، وربما يكون ائتلاف حكومي بقيادة العدالة والتنمية، أو لا يكون، لكن تركيا ستشهد، في الغالب، انتخابات برلمانية مبكرة في غضون عام، سيراجع فيها الناخب التركي نفسه، وسيميل إلى إعطاء الحزب الغالبية اللازمة للحكم منفرداً. ولكن، من دون امتلاكه القدرة على تعديل دستور أو كتابته، كون الأمر مرتبطاً حتماً بالتوافق الوطني وأغلبية الثلثين في البرلمان، أو الشارع، بينما ستظل عملية التسوية على سكة الحلّ، وهي كانت وستظل مصلحة وضرورة وطنية، بغض النظر عن تجاوز حزب الشعوب نسبة الحسم أو لا.