عن "الجزيرة" وأحمد منصور

عن "الجزيرة" وأحمد منصور

02 يونيو 2015
+ الخط -
أثارت المقابلة التلفزيونية "المسجلة"، التي بثتها قناة "الجزيرة" يوم الأربعاء الماضي مع أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة في سورية، ضمن برنامج "بلا حدود" الذي يقدمه أحمد منصور، تساؤلات كثيرة حولها، بعضها يمكن أن يوضع في إطار التساؤل العادي، وبعضها الآخر، وهو الأغلب، لا يخرج عن كونه محاولة للانتقاص من "الجزيرة" واتخاذ البرنامج ذريعة لمهاجمة القناة، التي لا أعرف، إلى الآن، قناة أخرى، يمكن لها أن تقف قريباً من قامتها. 
ولست هنا في معرض الدفاع عن "الجزيرة"، فسجلها المهني خير مدافع عنها، وقد كانت منذ انطلاقتها خير نصير ومدافع عن حقوق الشعوب، وأشير هنا إلى أننا في العراق، وبعد قرار رئيس الحكومة، إياد علاوي، آنذاك، (2005)، إغلاقها، فقدنا الصوت الأهم الذي كان في وسعه أن يخفف من وطأة الموت التي اجتاحت بلادنا، عبر نقل معاناتنا إلى العالم، فقنوات بقيت بعد "الجزيرة"، وما تزال موجودة، لم تكن منصفة في نقل الحقيقة، بل إن بعضها تحول إلى بوق للحكومة، ولم يكن الشعب ومعاناته بين أجنداته.
وتعقيباً على الذين هاجموا المقابلة مع الجولاني، ومن خلفها "الجزيرة"، بحجة أنها افتقرت للمهنية، أو بحجة أن القناة تعاملت مع منظمة مصنفة بين المنظمات الإرهابية، أقول إن من عمل ويعمل في الميدان الإعلامي يدرك أن ليس كل ما تشاهده على الشاشة هو الواقع، خصوصاً في البرامج المسجلة، والأمر ينطبق حتى على البرامج المباشرة التي تراها، ويفترض هكذا، كما هي بلا تعديل أو تغيير.
الإعلام بكل أنواعه وفنونه، وخصوصاً المرئي، صنعة، ربما لا يدركها، أو يدرك أسرارها، من لم يدخل كواليسها وكواليس يومياتها، وهنا أشير إلى أن ما شاهدناه من مقابلة الجولاني وأحمد منصور كان لقاء مسجلاً، وهو أمر يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وأنت تجلس خلف الشاشة وتشاهد المقابلة، مقيماً الأسئلة وطريقة طرحها.
شهدت مدينة الفلوجة عام 2004 حربين شنتهما الولايات المتحدة الأميركية عليها، في ربعيه الأول والأخير. في الأولى التي فشلت فيها أميركا في اقتحام المدينة، كان هناك نوع من حرية نقل المعلومة، وشاهدنا أحمد منصور ينقل وقائع الحرب يومياً، حتى انتهت الحملة الأميركية بالفشل. وفي الحرب الثانية التي جحفلت أميركا معها بريطانيا، منعت الإعلام من التغطية، بل عندما سمحت لوسائل إعلام غربية وأميركية بمرافقة قواتها، كانت تشترط عليهم الاطلاع على محتوى المادة الفيلمية قبل السماح ببثها، وحينها أعلن مراسل لـ "سي إن إن" أنه غير مسؤول عن المادة التي ستعرض عن حرب الفلوجة، لأن الأميركان كانوا يقومون بعملية إعادة مونتاج للمادة قبل السماح بها.

أسوق هذه الأمثلة إلى من تساءلوا لماذا لم يسأل منصور الجولاني السؤال الفلاني أو العلاني؟ المقابلة مسجلة، ومن غير المستبعد أن يكون الجولاني، أو جبهته، قد طلبت مشاهدتها قبل البث، أو على الأقل أن الجولاني رفض طرح أسئلة معينة، وهذا وارد، خصوصاً ونحن نتحدث عن بيئة تشهد معارك وقتالاً في أكثر من جبهة.
لا شك في أن مجرد الوصول إلى مناطق النزاع في سورية يعد بمثابة مغامرة ومغامرة كبيرة، بل إن مصادر سورية أكدت أن المكان الذي أجريت فيه المقابلة تعرض لقصف طائرات التحالف، وهي أمور تعكس ربما طبيعة المهمة الخطرة التي خاضها منصور وطاقم الجزيرة، وهي أمور أثرت، بطريقة أو بأخرى، على طبيعة إجراء الحوار، وما يمكن أن يتضمنه من أسئلة أو حوارات.
أما الذين انتهزوا الفرصة لمهاجمة "الجزيرة" وإعادة سيناريو الحديث عن دورها في الأوضاع التي يشهدها العالم العربي، فلعلهم يعلمون أن دور الإعلام أن يقف في المنطقة الوسطى بين كل أطراف النزاع، وكلما تمكن من الحفاظ على وسطيته نجح في أن يكون وسيلة إعلام مؤثرة، قريبة من الناس وهمومهم، ولعل "الجزيرة" فاقت غيرها في ذلك، فحتى أعداؤها، أو من يتمثلون عداوتها، يبحثون عنها إذا ما أرادوا ان يتأكدوا من خبر هنا أو خبر هناك. لم يسأل الذين استنكروا مقابلة "الجزيرة" من يقولون إنه زعيم منظمة إرهابية، على الصحافي والسياسي الألماني، يورغين تودنهوفر، الذي زار مناطق تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وبقي هناك ستة أشهر كاملة، وأبدى في مقابلة أجراها معه أحمد منصور في برنامج "بلا حدود" رغبته في لقاء أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، مؤكدا أنه سعى إلى ذلك، غير أن إجراءات التنظيم الأمنية منعته.
نجحت "الجزيرة" في الوصول إلى المنطقة المظلمة، التي لا يصل إليها الإعلام، وقدمت خدمة لكل الأطراف، فلقد نقلت وجهة نظر، وإنْ بقدر محدود، من يفترض أنهم أعداء للمجتمع الدولي المحترم جداً، وأتاحت الفرصة للتعرف على آرائهم، وهو أمر ينبغي أن تشكر عليه "الجزيرة".
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...