أميركا وإيران.. القلق النافع

أميركا وإيران.. القلق النافع

10 مايو 2015

ظريف وكيري في فيينا (23نوفمبر/2014/Getty)

+ الخط -
قال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إن الولايات المتحدة ما زالت تشعر بالقلق إزاء "تصرفات إيران المزعزِعة لاستقرار المنطقة"، وإنه "قلق جدا جدا" من تصرُّفات إيران في العراق، واليمن، وغيرهما. ويشبه هذا الموقف الأميركي المتَّسم بالقلق، وعدم الرضا عن السياسة الإيرانية الخارجية في المنطقة العربية، إلى حدّ ما، موقفَها الرافض استيطان إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، كما يشبه موقفَها المتخوّف من المَنحى القمعي الذي ينحوه حكمُ عبد الفتاح السيسي في مصر، من دون أن تعطّل تلك المواقفُ المعلَنة من "الواقعية السياسية" فيما يتعلق بإيران ومصر، والتحالف الاستراتيجي، مع إسرائيل.

غنيٌّ عن القول إن الواقعية، هنا، تكاد تُختصَر في المصالح، وحتى "الاستقرار"، فإنه ذلك الوضع الذي يسمح باستمرار رعاية تلك المصالح التي تتمظهر في الجوانب الاقتصادية التجارية، والأمنية العسكرية، ليس فقط بالمصالح الذاتية التي توفّرها منطقة الشرق الأوسط لواشنطن، ولكن، بما يعنيه هذا الجزء من العالم من أهمية، ومفاتيح للهيمنة الأميركية على العالم، وحرمان الدول المنافسة من أدوار أكبر.

هذه "الواقعية" مرتدّة إلى مصالح جيواستراتيجية متقاطعة تتفوّق، بحسب استراتيجية أوباما، على نقاط الخلاف، وكثيرا ما تكون تلك النقاط عائدةً إلى خلافات فكرية، كمجانبة مصر للديمقراطية، وحقوق الإنسان، أو إفرازاتها، أو لأسباب تتعلّق بمدى الطموح الإيراني، الإقليمي، والتي تمثّلت، من ضمن ما تمثّلت، في مشروعها النووي، أو لأسباب استمرار إسرائيل في احتلالها الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، من دون أن يتعمّق الخلاف، أو التعارض إلى البنية السياسية في هذه الدول التي تحكم مواقفَها السياسية.

لكن هذه الواقعية السياسية التي قضت بتقريب "أعداء الأمس" لا يمكن أن تقضي باستعداء حلفاء الأمس واليوم، سواء بثقلهم الاقتصادي والسياسي، كالسعودية ودول الخليج، أو بفرادة موقعها وموضعها، كما هي مصر. فضلا عن الدولة المسلمة الأقرب في الصراع الدائر من الدول الخليجية، ومَن معها، وهي تركيا، الدولة العضو في حلف الأطلسي، والأكثر قبولا من إيران، في المنطقة العربية والإسلامية.

ويمكن أن نرى في السياسة التركية مع إيران معادلا، ولو تقريبيّا، للسياسة الأميركية الأوباميّة منها، إذ على الرغم من التصريحات التركية، على لسان الرئيس، رجب طيب أردوغان، أن أنقرة ترفض الهيمنة الإيرانية على المنطقة، وأن تحلّ إيرانُ محلّ داعش، إلا أن علاقات بلاده القويّة مع طهران، في مجالي الاقتصاد والطاقة، تجعلها لا تقطع معها. لذلك، تحرص إدارة باراك أوباما على استبقاء التوازن في هذا الظرف الإقليمي المتحرِّك، كما تبدو معنيّة بضبط خريطة النفوذ بين اللاعبين الإقليميين، بما لا يفجِّر صراعات إقليمية مباشرة بين إيران من جهة، والدول الخليجية والعربية المساندة لها من الجهة الأخرى.

وفي هذا السياق، جاءت تطمينات كيري، إذ قال إن بلاده لا تسعى إلى "صفقة كبرى" مع إيران؛ للتخفيف من المخاوف الخليجية، من توسُّع أكبر لدور إيران، بعد اتفاق الإطار الذي أُبرم مع إيران، بشأن مشروعها النووي (سيكون في لقاء القمة المقبلة في كامب ديفيد مجال أوسع لبحث تلك المخاوف)، وفي لقائه مع نظرائه في دول مجلس التعاون، في باريس أخيراً، قال: إننا نؤمن بأنه من الضروري ألا يُسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي.

مع أن هذا الضبط الأميركي للمنطقة في الظرف الراهن ليس سهلا، ولا مضمونا تماما، ليس لأن أوباما يواجه معارضة داخلية في الكونغرس الذي لمعارضيه من الحزب الديمقراطي أغلبية فيه، فقط، ولكن، ولعلّه الأكثر صعوبة، بسبب خروج القوة في المنطقة العربية عن الدول إلى قدر من التوزّع والانتشار على جماعاتٍ لا تخضع للدول، من قبيل "داعش" و"جبهة النصرة" إلى مليشيات مسلَّحة غير منضبطة في جيش الدولة تماما، كما المليشيات الموالية لإيران في العراق.

ولكن أوباما، كما صرّح، أخيراً، في لقائه مع "نيويورك تايمز"، يستند إلى القوة الأميركية الطاغية، ولا سيما عسكريا، حيث قارن؛ من أجل طمأنة الأميركيين، بين ميزانية الدفاع الأميركية التي تبلغ 600 مليار دولار، وميزانية إيران الدفاعية التي لا تزيد عن 30 مليار دولار، فرؤية أوباما، كما يقول دانيال هاننغر، المحرِّر في "وول ستريت جورنال" تقوم على التحدُّث بهدوء، مع الخصم، مع حمْل عصا غليظة في اليد، من دون إظهار أي نيّة لاستعمالها.

ولا يغيب عن البال أن أميركا طالما استفادت من الشكوك والمخاوف التي تنبع من اضطراب العلاقة الإيرانية الخليجية تحديدا، في تعزيز علاقتها الأمنية مع دول الخليج، وتكثيف صفقات السلاح، كما قال كيري، في لقائه، أخيراً، مع وزراء خارجية مجلس التعاون: سنواصل العمل معاً في المنطقة؛ لتحديد العلاقة الأمنية، ودفعها إلى الأمام بيننا.

وكانت واشنطن قد عزّزت إجراءاتها العسكرية في الخليج، في ضَوْء ما وصفته بـ "استفزازات" إيرانية، وأعلنت أن قطع البحرية الأميركية سترافق السفن التجارية التي تحمل علماً أميركياً في مضيق هرمز، بعد يومين من اعتراض إيران سفينة تجارية ترفع علم جزر مارشال (ميرسك تيغرس)، مع أن وزارة الدفاع (البنتاغون) عادت، وأعلنت عن وقف مرافقة السفن التجارية عبر مضيق هرمز. لكن استمرار التوتر، والتدخُّلات الإيرانية، يسمح بمزيد من الحضور الأميركي.

في المقابل، تعتمد إيران في تسويغ دورها الإقليمي على خطاب دفاعي، ولا سيما بعد ظهور خطر منظمات معادية لطهران، وغيرها، مثل "داعش"، مستخدمةً هذه الذريعة للاعتراف بدورها أميركيا ودوليا، ولاحتواء المنطقة وشعوبها، مع أنها عملياً تؤسس لقوى موالية لها، على أنقاض القوى الرافضة للنفوذ الإيراني، ولا سيما في العراق. ولا يخفى أن شكل الحل للصراع في سورية، وعليها، سيكون من أهم المحددات لموقع إيران الإقليمي، ومدى دورها، ومن المستبعد أن يكون الحل بعيداً عن مراعاة المصالح الإيرانية.

والمعلن من الموقف الأميركي هو أن بشارا لن يكون له دور في مستقبل سورية، وأن الحفاظ على مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية وهيكلياتها المدنية أمر مطلوب؛ منعا لتكرار ما حدث في العراق، ولا سيما في هذا الظرف الذي تشكّلت فيه، وحازت السلطة، أو جزءا منها، جماعات مسلّحة إرهابية، أو معادية لأميركا، او رافضة مشروع الدولة المدنية، فلم تعد القوة مركَّزة في الدولة، بل توزَّعت، وانتشرت؛ فأصبح الحفاظ على كيان الدولة أكثر أهمية.

ولا يخفى أن إيران تواجه صعوبات حقيقية، لا يبدو أنه يمكنها التغلُّبُ عليها، تتمركز حول رفض الشعوب العربية، في غالبيّتها، الهيمنة الإيرانية، وهذا ما يتضح في العراق وسورية، وغيرهما، ولإيران قدراتٌ اقتصادية وعسكرية محدودة (حتى لو نجحت في التخلُّص من العقوبات الدولية؛ تتويجا لحلٍّ مع أميركا والدول الخمس الأخرى في الموضوع النووي)، إذا ما قيست بحجم استحقاقات التوسُّع الإقليمي، وقدرات الأطراف المقابلة، من الدول العربية، مِن مِثْل دول الخليج، ومَن يدعمها، من دول عربية، وإسلامية، كتركيا، وغيرها، فلا يُستبعد أن تُستنزَف إيران، ويكون هذا التوسُّع الذي يفوق قدراتِها، وفرص قبولها تورُّطا ينزلق بها نحو الانحدار والتحجيم، ولو بعد حين. وهنا أستذكر قول بريجينسكي إن تركيا نموذج متطوّر لما ستؤول إليه إيران في المستقبل التي، بحسب رأيه، تشاطر تركيا في تشابهات مجتمعية واقتصادية.