مكر التاريخ.. أبطاله وضحاياه

مكر التاريخ.. أبطاله وضحاياه

26 مايو 2015

التخلف السياسي سبب لكل أشكال التخلف الأخرى (Getty)

+ الخط -
بعد الاستقلال، بدأ صعود الإيديولوجيات العربية، الموصوفة باليسارية والتقدمية، عبر انقلابات عسكرية وصفت بالثورات، التفت حولها قطاعات واسعة من الفئات الفقيرة والوسطى، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى أنظمة استبدادية وشمولية. تم تبني الإشتراكية لإدارة الدولة والمجتمع، لكنها اختُزلت في جملة تدابير اقتصادية، كان القطاع العام ركيزتها الأساسية. وكانت نتيجة هذه الاقتصادوية التي هيمنت على مشاريع التنمية والتحديث فشلاً ذريعاً، في غياب تنمية بشرية حقيقية شاملة تستثمر في الإنسان ولصالحه. 
ومع نظام سياسي لم يعترف بالمؤسسة، بل كرّس عبادة الفرد، كان الاقتصاد الاشتراكي رديفا للاستبداد، فعملت سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج والقطاعات الإنتاجية المختلفة، إلى مزيد من إحكام قبضة النظام السياسي وترسيخه، وبقيت العدالة الاجتماعية ومشتقاتها شعارات للاستثمار الشعبوي. غُيّبت الديمقراطية، وعُطلت الحياة السياسية، بحجة قطع الطريق على أعداء الثورة في الداخل والخارج، واستثنائية المرحلة، وخطر الثورة المضادة. ارتفعت المديونية وارتهن الداخل للخارج، وفي ظل صراع القوى العظمى والإقليمية على المنطقة العربية، لم تُجدِ سياسة عدم الانحياز سوى في مزيد من تحجيم تمدد المعارضة شرقا وغربا.
مع تكرار الهزائم على الصعد كافة، وفشل التنمية والتحديث، تآكلت شرعية الحكم، وكان لا بد من صناعة القائد/ البطل، عبر تحويل الهزائم وأنصاف الانتصارات إلى بطولات، وأتاح الموروث السيوثقافي نجاحاً لتلك الصناعة. ألم يورثنا بطل، كصلاح الدين الأيوبي، مع كل نصره المبين، حكم قرقوش؟ ومع بعض الهوبزية التي تلح على شرعية الحاكم المستمدة من توفير الأمن والاستقرار، وعبر عقدة الذنب في مجتمع بطريركي (أبوي)، كان الشعور واللاشعور الجمعيان مستهدفين من الإعلام الرسمي. وسرعان ما تعالت الأصوات المطالبة بالشرعية الدينية، لتتم صناعة بطل موازٍ يأتي على رأس كل مائة عام، عبر تنظير أصولي، يلغي الزمن ولا يعبأ بالتاريخ. وكان تسييس الدين عنوان المواجهة، لتدخل المجتمعات في حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد.
أكدت التجربة أولوية السياسي على الاقتصادي، فتبين أن التخلف السياسي سبب لكل أشكال التخلف الأخرى. وكان هيغل محقاً حين رأى أن الشعب المتخلف سياسياً لا يمكن أن ينتج فناً متقدماً، ولا فلسفة حقيقية، فوجود الدولة وتقدمها السياسي لازم لنهضة العلوم والآداب والفنون، فالفلسفة (أو فكر الفكر) لا تظهر إلا حيث توجد الحياة السياسية.
مع انهيار المعسكر الاشتراكي، بدت الخصخصة كمن يفرض نفسه، وتمت تحولات ديمقراطية شكلية لطمأنة المستثمرين، وراكمت النخب الحاكمة ثرواتها. لكن، في مجتمع استهلاكي تحول فيه ما كان من الرفاهية والكماليات حاجة ضرورية، تقدمتها الحاجة إلى المشاركة السياسية، كانت قبضة الأنظمة قد بدأت بالتراخي. ومع التحول نحو مجتمع المعرفة، كان مرور عشر سنوات على انطلاقة القرن الحادي والعشرين كافياً لاهتزاز صورة البطل ومفهوم البطولة، إذ لم يعد من الضروري أن تكون سياسياً لتكون بطلا، بل يكفي أن تكون بائع خضار أحرق نفسه احتجاجا.
رأى هابرماس أن كل أمة تعاني في فترات مختلفة حالة انسداد على الصعد كافة، فلا يعرف أحد كيف المخرج، ليظهر الأبطال الذين يكتشفون مواطن الخلل، ويعطون دفعة للأمة، كي تثق بنفسها وتنطلق من جديد، لكن أبطالنا المزعومين لم يوفروا لنا أية ثقة بالنفس، بل مزيداً من حالات الاغتراب والانفصام عن الواقع. وما إن اندلعت انتفاضات "الربيع العربي"، حتى تبين مدى هشاشة تلك الأنظمة، وفي الوقت نفسه، هشاشة تلك المجتمعات التي خضعت، عقوداً طويلة، لعمليات تجميل وترقيع أكثر من اللازم. وبدأ الأبطال وعروشهم تنهار تباعا، ولم تشفع لهم لا أوسمتهم العسكرية، ولا تاريخ نضالهم المزعوم، ولا حتى احتجاجهم المصدوم بحقيقة وجود شعب. وكان من السخرية أن يلعبوا، في خطبهم الأخيرة، أدوار الضحايا.

في "جدلية العبد والسيد"، رأى هيغل أنه لم يتجسد في الشرق وعي حر سوى "الطاغية "، لكنه لم يكن حراً حرية كاملة، إذ يقتضي الفرد الحر أن ينال اعترافه من وعي حر يواجهه، لا أن ينال الاعتراف بالسيادة من أشخاص عبيد. لهذا، كان الحاكم الشرقي المستبد طاغيةً لا فرداً حراً. فهل تحقق وعي الحرية في تاريخ الشرق اللاحق؟ هل راكم الفكر العربي ما يكفي من تنظير حول الحرية في ظل تغييب مستدام للحياة السياسية، ولنظام أخلاقي يقوم على القيم، لا على عادات الولاء وطقوس الطاعة؟ وهل بإمكان الطاغية أن يصبح بطلا؟
أبطال هيغل هم العظماء من الرجال الذين يعرفون متطلبات اللحظة الراهنة، إنهم مشيئة العقل الذي يمثل جوهر التاريخ، وليسوا خلقا تعسفيا للفرد، وبسعيهم إلى تحقيق غاياتهم الخاصة، يحققون مطلبا عاماً. فنابليون بونابرت، الذي رأى فيه هيغل الروح المطلق وقد تجسد على حصان، هو طاغية أوروبا، لكنه محررها من هيمنة إنجلترا الصناعية. هو المنحاز إلى رجال المصارف، لكنه محطم الملكيات الإقطاعية والمدافع عن الإصلاح الزراعي الأول. هو مستبد لكنه محرر القانون المدني (1804). هو دافن الثورة الفرنسية، وناشر مبادئها في أوروبا طولاً وعرضاً في الوقت نفسه. كان على حد وصف أوكتاف أوبري "ضرورة ملحة لفترة من التاريخ، جسّد الطفرة بين النظام القديم والزمن المعاصر. وهو الذي مسح الوحل عن وجه فرنسا وأوروبا. وفتح أبواب العصر الحديث أمام الشعوب". هكذا يبدو بونابرت فصلا من فصول مكر التاريخ. فهل كان طغاتنا ضرورة تاريخية، وقد أحرقوا الأخضر واليابس، أم أن تاريخنا أقل مكراً؟
لا يزال النقاش محتدما حول ما إذا كان بالإمكان توصيف تلك الانتفاضات الشعبية بالثورات، إلا أن هذا النقاش بات ينتمي إلى المجال القيمي الأخلاقي الذي يطالب المثقف بحسم موقفه، مع قوى التحرر أو مع قوى الاستبداد، أكثر من انتمائه إلى مجال البحث العلمي الخالص الذي يقتضي التجرد من أحكام القيمة. يتضمن مفهوم الثورة نفسه الربط بفاعلية كلية، اجتماعية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية، كل الوقائع التي تبدو منفصلة لخلق الدولة الحديثة، مع دعائمها الاجتماعية والسياسية، هل نسير بهذا الاتجاه؟ في تونس، يبدو ذلك مع انحناءات وتعرجات ومعيقات كثيرة. لكن، عدا ذلك، لم تحقق تلك الانتفاضات الحد الأدنى المطلوب، بل يبدو أننا في حالة انهيار شامل وباتجاه دويلات لا دول حديثة. هناك ثائرون في كل مكان يملأون الأرض ضجيجا، كما تمنى تشي غيفارا يوماً، لكن أيضا، هناك الارتهان للخارج، وغياب الرؤى السياسية وعدم وضوح الأهداف وتباينها، وصراع على النفوذ والمكاسب، وسياسات الإقصاء والهيمنة والمصادرة على القرار. أخلاقياً، تماهى طغاة جدد مع الاستبداد، واختلط الحابل بالنابل، حتى لم يعد سهلاً توفر إجابة حاسمة حول من هم الثائرون الطيبون، فبات من يؤيد الثورة، وهو يكيل الانتقادات لما يحدث فعلياً على الأرض، يجد نفسه، في نهاية المطاف، يقف مع الثورة بمفهومها العام المجرد.
ربما لا تزال الثورة موجودة بالقوة (بالإمكان)، ولم تخرج بعد إلى حيز الفعل، ولتحقيق ذلك نحتاج أبطالاً حقيقيين، لا طغاة جدداً. ولم يعد مجدياً الانجرار، أكثر مما يجب، وراء مقولة مكر التاريخ الذي يسخّر كل النقائض، وكل ما لا يعجبنا لتحقيق مشيئته، فالإمعان في تبرير سلبيات الواقع، سيجعلنا ضحية التاريخ نفسه الذي "يسخر من ضحاياه.. ومن أبطاله، يلقي عليهم نظرة ويمر"، على حد وصف محمود درويش.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.