متواليات هندسية مرعبة

متواليات هندسية مرعبة

24 مايو 2015
+ الخط -
أسير في الشارع كل يوم، وأحاول أن أصبر نفسي، أو أقنعها بأن الحال ما زال على يُرام، وأتمتم دائما بالعبارات التالية (لا لا يبدو أن الحال عال والجو تمام هذا الصباح، لا لا بالذات هنا وفي هذا البلد لن يحدث ما نخاف منه، ولن يحدث شيء، يا عمي شعبنا واعي والحمد لله). وأبدأ بالتركيز على المؤشرات التي ربما أعتقد أنها تدل على التلاحم ونسيان الخطوط الغائرة والموجعة. عند هذه اللحظة، أتخلص من الرعب والخوف، وأنسى تماما تلك الكوابيس التي لا تمر ليلة من دون أن تراودني نائماً، على الرغم من أنني أخذت بنصيحة بعضهم بأن أنام متوضئا، ولا أتعشى، ولا أشاهد أفلام رعب في الليل قبل النوم بالذات، ولا أقابل في النهار أشخاصاً أكرههم ويكرهونني...وتطول القائمة، إلا أن الكوابيس لا تنفك تراودني كل ليلة تقريبا، حتى هذه الكوابيس أتناساها، لعل يومي يسير بنسبة عالية من الطبيعية.

لكن، يا جماعة الخير، وهذا سر بيني وبينكم، يبدو أن هاجس الخطوط الغائرة (وجنون القوم الوشيك) الذي لا مفر منه، كما يبدو، أصبح وسواسا قهريا أعاني منه، حتى وأنا في ذروة نقاشاتي لأجل إتمام صفقة ما تتعلق بعملي، مثلا، أنسى العميل، لا وبل لا أسمع ما يقوله رداً على ما أطرحه عليه، وهو أمر غاية في الأهمية، وبدل ذلك أبدأ بالتفكير مثلاً (بسايكس بيكو) أو بأحوال مصر و سورية أو بداعش، صدقوني هذا ما يحصل.

الرعب الذي بات يجتاحني، ويجتاح دقائق حياتي، يتمثل بسلسلة حقائق متتابعة متوالية، توحي لي بأنني بت قادرا على استقراء المستقبل الأغبر المظلم الآتي، وبدأ عندي عادة متبعة، عندما أبدأ بالتفكير بتركة الرجل المريض، والذي انقضوا عليها بثورةٍ نقلت كل عالمي -عالمنا- العربي. وكما قال الأدباء والمفكرون العرب، المستنيرون البعيدون عن السلطويين وبريق خداعهم، نقلت هذا العالم من تحت المطر إلى تحت المزراب، في أحسن الظروف، فرسمت خطوط سايكس بيكو التي قسمت، وقتها، التركة الهائلة العظيمة التي ضمت فقط ثلاث تقسيمات، الجزيرة العربية وبلاد الشام وشمال إفريقيا إلى كتل صغيرة، تناثرت إلى 22 شظية، الأمر الذي أظهر دعاة القومية العربية والقوميين الذين ظلوا ينادون بأننا أمة واحدة ذات دم ومصير وهدف واحد إلى أن اختفوا وقوميتهم تماما!
لكن، على الرغم من أن سايكس بيكو رسمت وقتها على الأرض، وقسمت مناطق جغرافية، إلا أن المتوالية المرعبة لم تقف هنا، إذ بتنا نجد أن هذه الخطوط أصبحت غائرة جداً، وحفرت في الصخر عميقاً، لا بل توالت، حتى أصبحت خطوطاً محفورة في القلوب، هذه المرة، ولم يعد من ينادي بالقومية العربية والوحدة، وباتت مثل هذه الأمور ضربا من الخبل وقلة العقل وضيق الأفق، ومن ثم توالت الأمور لتوقعنا بترادفية تاريخية، كانت هي القاتلة، ربما عندما بات كل قطر منسلخاً عن باقي الجسد، بجغرافية لم يبتدعها هو، لكنها فرضت عليه فرضا، يتغنى بتاريخه، بل وتاريخه وحده، ومنهم من اخترع له تاريخاً، وهاج وماج به، وخلق له الأبطال والبطولات والمناهج والكتب، واتخذ له إلها مليكاً أو حاكماً، ونكب بشعبه ومقدراته على عبادته وعبادة عائلته وتاريخها وأمجادها...!

لكن الرعب الحقيقي الذي أعاني منه، كل صباح، هو عندما أفكر بالأمور دائما بمبدأ المتواليات الهندسية، فمثلاً نجد أن خطوط الأرض انتقلت لتحفر في القلوب، الأمر الذي صور لي استحالة محو خطوط الأرض هذه، قبل محو خطوط القلوب. لكن، هيهات تمحى؛ وهي امتدت من القلوب في متوالية جديدة، بحيث بدأت بإنشاء جدران بين القبائل والطوائف والأديان وأصحاب المعتقدات المختلفة في البلد الواحد، فأصبح الوصول إلى مرحلة محو خطوط الأرض ليس أمراً شبه مستحيل، بل مستحيلا بامتياز.

لكن المتوالية الأخطر والأعظم هي عندما يعاد رسم خطوط سايكس بيكو مجدداً، بدل محوها أصلا، بحيث نجد القطر الواحد تفتت إلى أقطار صغيرة تضم بداخلها، مثلاً، أبناء القبيلة الواحدة، أو أبناء الطائفة الواحدة، أو أبناء الديانة الواحدة، أو أبناء العرق الواحد.
وأتساءل، كل صباح في أثناء رعبي الدائم، كيف سيتم ذلك؟ كيف سترسم الخطوط الجديدة؟ فأنا أعتقد أنها لن ترسم بطريقة الدعوات على الغداء أو العشاء، مثلا، أو بحضور كبارية القوم، خلال حفلة شاي أو قهوة مهيبة، لكن مجدداً. وبمبدأ المتواليات المرعب هذا، فإنها غالبا ما سترسم بدعوات هائلة على ولائم عظيمة من الأجساد البشرية الممزقة، والجثث منقوصة الرؤوس، بحيث تكون النتيجة الطبيعية إعادة رسم الخطوط، حتى لو أصبح البلد الواحد، هذه المرة، ثلاث شظايا أو أربع أو ربما عشراً.

لكن، وبما أن الأمر حاصل لا محالة من منطلق رعبي الصباحي، فلنتذكر أن كل الأقطار والشعوب والأمم التي مجدت وألهت وعبدت حكامها، واختزلت الأوطان وتاريخها وإنجازاتها بشخص الحاكم وعائلته وحذائه وابتسامته (...) تلاشت، واختفت وتحطمت وفنيت ورقصت على حطامها الأمم، وأن الشعوب التي ركزت على الإنسانية والعلوم والإبداع، واعتبرت حكامها خدامها، نجحت وترعرعت، وقادت العالم واستمرت.
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
بشار طافش (الأردن)
بشار طافش (الأردن)