مصر.. لا مناص من المصالحة

مصر.. لا مناص من المصالحة

09 ابريل 2015

حملة للجيش المصري في سيناء (21 مايو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

القراءة التاريخية المعمقة لكل الحروب الأهلية، الباردة والساخنة، والخلافات التي مزقت المجتمع، لهذا السبب أو ذاك، تقول إن هذه الحروب والأحداث تنتهي، عادة، بالمصالحة الوطنية، وتصبح الأحداث المؤلمة جزءاً من الماضي، مهما كانت قسوتها وحجم المآسي التي خلفتها. والفرق بين ساحة وأخرى مدى قناعة الأطراف، وحنكة الحكماء، إن وُجدوا، في تقصير مساحة المعاناة، والاحتراب. وما حدث في مصر منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وما تبعها من مآس مزقت لحمة المجتمع، وتركت ندوباً وجروحاً بالغة الإيلام، ليس استثناء، خصوصاً وأن الاستبطان المعمق للحدث المصري، الآن، يؤكد أنه وصل إلى نقطة احتباس معقدة، لا ينفع معها تمسك الأطراف بوجهات نظرهم، وإصرارهم على المضي في الطريق الذي فرّقهم في ذروة الخلاف. صحيح إن ثمة ظالماً ومظلوماً، وثمة ضحايا كثيرون، وجروح لم تندمل، وندوب مست الأرواح قبل الأجساد، لكن استمرار هذا الحال فيه ضياع مزيد من الوقت، والضحايا، والخراب، والضلال، ولنا في تجارب من سبق مصر، ومصر نفسها، عبرة، وأي عبرة!

في نهاية السنة العبرية، نشرت صحيفة معاريف على موقعها الإلكتروني تقريراً بشأن ما أسمتها خريطة المخاطر التي تهدد "إسرائيل" في منطقة الشرق الأوسط، في ظل الأحداث التي تشهدها المنطقة من تغييرات متسارعة، ربما تتأثر بها "إسرائيل" بشكل سلبي العام المقبل. وأكثر ما يلفت النظر في تقويمات الصحيفة أن الجيش المصري، على الرغم من كل ما حدث، لا يزال الوحيد القادر على مواجهة "إسرائيل" ميدانياً، بينما تشكل كل من إيران وسورية وحزب الله والقاعدة مصادر "قلق" تهدد الأمن الإسرائيلي.

يعيدنا هذا الاستخلاص شديد الأهمية إلى حالة مصر اليوم، والتجاذبات الخطيرة التي تكتنف المجتمع المصري، وانعكاس هذا كله على وضع الجيش المصري، ومدى "جاهزيته" لأي مهمة قتالية، قد تفرض عليه في المستقبل، مع العلم أنه، وفقاً لما جاء في التقرير السنوي للأوضاع الجارية في المنطقة، ترى الصحيفة أن احتمالات اندلاع حرب بين جيوش نظامية من الدول العربية المجاورة والجيش "الإسرائيلي" انخفضت، في الأعوام الأخيرة، بشكل حاد، وهذا ظاهر للعيان. ولكن، هذا شيء، والحفاظ على قوة الجيش المصري ومنعته شيء آخر، ولا علاقة له بالسياسة، كما قال لي أحد ضباط الجيش الثالث في سيناء، بعيد توقيع أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، حيث لاحظت، آنذاك، أن الجنود في الخطوط الأمامية يتناولون طعامهم، وهم وقوف في حالة الاستعداد القصوى، فسألتهم: ألستم في حالة "سلام" مع "العدو"، فلم هذا الاستعداد؟ فقالوا لي، إنهم لا شأن لهم بالسياسة، وعقيدتهم القتالية لم تزل تعتبر "إسرائيل" عدواً. ومن أسف، أعتقد أن مثل هذا الشعور ربما تغير قليلاً، وربما كثيراً، بعد جر هذا الجيش العظيم لمواجهاتٍ، ليست من مهامه!

بعد اتفاقيات السلام مع مصر، ترك الجيش المصري عقيدة القتال السوفييتية، وتبنى أسلوب القتال الغربي المتطور بفضل المساعدات الأميركية بالأساس. وبحسب التقديرات الصهيونية، الجيش المصري وحده، في المنطقة، القادر على مواجهة الجيش الإسرائيلي في ميادين القتال. ولم تؤثر الهزات السياسية التي عصفت بمصر في الأعوام الأخيرة، وفق التقدير، على البنية الأساسية له، على الرغم من أن الجهات الأمنية في "إسرائيل" ومصر تحرصان، باستمرار، على توضيح أن العلاقات بين الجيشين جيدة، وأن كلا الطرفين يعمل من خلال مصالح متشابهة، في محاربة منظمات بات الطرفان يسميانها منظمات "الإرهاب".

الخوف الذي ينتابنا جميعاً في ظل الظروف الحالية، أن تؤثر تلك المعركة المفتعلة مع "الإرهاب" على عقيدة هذا الجيش، وتدخله في نفق مخيف من الانشغال بمعارك جانبية، حلها أساساً سياسي، وليس أمنياً، فما يجري اليوم في سيناء وبعض مناطق الصعيد أشبه ما يكون بنسخة مصرية خفيفة من الحرب الأهلية التي استمرت في الجزائر نحو عشر سنوات (العشْرية السوداء)، وحصدت مئات آلاف الأرواح، ثم عاد جميع الأطراف إلى خيار المصالحة الوطنية الحتمي، وكان حرياً بها أن تلجأ إليه، وتوفر على البلد إهدار كل تلك الأرواح، ناهيك عن كلفتها الاقتصادية والاجتماعية المدمرة. ليست مصر في حاجة إلى عشرية سوداء، بل عشرية بيضاء من التصالح مع الذات، وتغليب خيار الوحدة والحوار والتفاهم، وإعادة بناء ما دمرته عصور الحكم العسكري الغابرة، فالحفاظ على مصر وجيشها ليس مصلحة وطنية مصرية فحسب، بل مصلحة قومية عربية، ولن يكون من مصلحة أحد، باستثناء إسرائيل، أن يغوص جيش مصر في وحل حرب مفتعلةٍ اسمها الحرب على الإرهاب!

جربت مصر أيام الراحل جمال عبد الناصر المواجهة مع التيار الإسلامي، وحدث ما يشبه الحرب الاستئصالية، التي استنسخها بن علي في تونس. ولكن، كلا الرجلين رحل وبقي هذا التيار، ونهض غير مرة من تحت الرماد، ما يؤكد ضرورة المصالحة، وطي صفحات الخلاف، وتغليب خيار الحوار، حفظاً لدم أولاد البلد، ومواجهة المخاطر التي تهدد العرب من كل جانب. ونستذكر، هنا، تجربة المغرب في "الإنصاف والمصالحة" خياراً إبداعياً لتحصين الجبهة الداخلية، وطي صفحات الخلاف، للتفرغ لبناء المجتمع، وحقن دماء أبنائه.