تونس.. الدستور والإرهاب والتعذيب

تونس.. الدستور والإرهاب والتعذيب

05 ابريل 2015

تظاهرة ضد الإرهاب والاغتيالات في تونس (29 مارس/2015/الأناضول)

+ الخط -

يقترف الإرهابيون من الأعمال أشنعها، وهذا أمر لا جدال فيه، لأنهم يعتنقون أفكاراً ومذاهب، ويأتون ممارسات منقطعة عن الإرث الإنساني المشترك الذي نتحرك داخله. ولكن، مع ذلك، علينا أن نعترف، أيضاً، بأن هذا المشترك حديث، وأنه في مواقع كثيرة ما زال هشاً غضاً، ومثيراً للجدل لدى أوساط عديدة (الإعدام، التبني، حقوق المثليين...). وعلى الرغم من ذلك، قربت المعاهدات والمواثيق الدولية وحركة حقوق الإنسان العالمية وجهات النظر، وخلقت مشتركاً كونياً مهماً في ثقافة حقوق الإنسان. هذه الحركة تعبر عنها التعديلات المتسارعة في الدساتير والقوانين، بما يتناغم مع حقوق الإنسان، كما تعبر عنها حركات التضامن العالمية الواسعة، حينما تنتهك تلك الحقوق في أماكن عديدة من العالم. تحدث أحياناً انحرافات، وكيل بمكيالين في القضايا نفسها، لعل أهمها القضية الفلسطينية وحقوق الأقليات المسلمة التي ارتكبت في حقها مجازر شنيعة إلخ. ومع ذلك، علينا أن نوسع تلك الحركة ونوطنها، وهذا أفضل من الارتداد عليها ونسفها. يستعمل الإرهابيون تلك التناقضات والاختلالات للارتداد عن هذا المشترك الكوني والكفر به واقعاً ومجازاً.

يرتكب الإرهابيون أفعالهم الشنيعة من خارج ذلك المشترك، بل ويضفون عليها هالة كاذبة من القداسة، ترتقي بهم إلى مراتب متخيلة. ولكن، على افتراض أننا ظفرنا بهم، ما تُرانا فاعلين بهم؟

تراجعت منظمات حقوقية عديدة كانت تندد بجرائم التعذيب المقترفة في حق معتقلي غوانتنامو والعراق عن تلك المواقف، باعتبار أن هؤلاء الإرهابيين أصبحوا بيننا، ويصيبون منا مقتلاً. فكأن لكونية حقوق الإنسان جغرافية متقلبة ومتحركة تقلب المزاج قبل الحدود.

ويؤكد خبراء عديدون أن خصوصية الثورة التونسية تكمن، كما قال فقيه القانون الدستوري، عياض بن عاشور، ثورة دستورانية، تجسد ولع التونسيين بالدستور وهيامهم به، منذ مطلع القرن الفارط. وهنا تكمن خصوصيتها. ولكن، ما أن نقترب من تلك "المناطق العسكرية" حتى يتناسى الناس، ونخبهم السياسية والإعلامية، أن لهم دستوراً قال كلمته، في أكثر من مقام ومنها التعذيب بالذات. فهو ينص، مثلاً، في فصله الثالث والعشرين، "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المادي والمعنوي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم". وينص الفصل الثلاثون منه أيضا "أن لكل سجين الحق في معاملة إنسانية تحفظ كرامته".

فإما أن هذا الدستور الفتي الذي لم تمض بعد على المصادقة عليه سوى أشهر قليلة كان فيها الإرهاب يرتكب، بين حين وآخر، أعماله الشنيعة، أو أننا نستحث على استصدار قوانين تخرق الدستور في حركة تواطؤ جماعي مريب، بموجبها يقول الدستور ما يشاء، وتقول القوانين ما نشاء، وحتى المحاكم الدستورية المقبلة ستكون على ما ذهبنا إليه. وإما أن بعضهم لم يقرأ الدستور أصلاً، أو يرفض حتى الاطلاع عليه، وهي فرضيات غير مستبعدة.

يخلق الإرهاب، أينما حل، إرهابات أخرى، حتى في أعرق الديمقراطيات، لا تقلّ فظاعة عما يرتكبه في حق الأبرياء، وذلك حين نجبر، تحت وطأة التخويف والتخوين، على أن ألّا نرى إلا ما يرى خبراء الإرهاب واختصاصيوه، من محللين وسياسيين وإعلاميين. نحتاج، في أحيان كثيرة، أن يكون بيننا نعوم تشومسكي، حتى يمكننا، ولو لوقت قصير، أن ننجو من "صناعة القبول، البروباغندا الإعلامية والديمقراطية". وذلك عنوان أحد مؤلفاته.

من حق القانون والمجتمع أن يسلب الإرهابي حريته، وأن يقيد عليه حركته، لشل قدراته القاتلة وردعه حماية لحياة الناس وسلامة المجتمع، بل هذا واجبه. ولكن، هل علينا في ذلك كله أن نسلب الإرهابي إنسانتيه؟ هذا هو السؤال الأخلاقي والفلسفي الذي علينا أن نجيب عنه، لأن هذا السلب هو الذي يبيح كل أشكال المعاملة التي "تنعت غير إنسانية". سلبت البشرية، في معرض تاريخها حتى القريب منه، ولعلها لا زالت تقوم بذلك، من بعض الأشخاص والمجموعات هذه الصفة، حين ارتكبوا ما عد، آنذاك، موجبا للإخراج من دائرة البشر. يصف ميشال فوكو بدقة متناهية، في كتاباته العديدة ومقالاته وتصريحاته، تثير فينا مزيجاً من الألم والحيرة والخوف، كيف كان الناس يحرقون السحرة والمجانين وغيرهم. هل يجوز لنا، حالياً، أن نسلب من هؤلاء إنسانيتهم ونحرقهم، أو نعذبهم، أو نفعل بهم ما هم فاعلون بنا أو أشنع؟ ويؤكد، في أكثر من مقال، أن ذلك لم يكن صاعقة تنزل من السماء، بل كان "مطلباً شعبياً ملحاً".

حين يتملك الشيطان جسد الساحر، مثلاً، ويسكن روحه، يجوز قتله، وحين يتدحرج جسد الإنسان إلى مرتبة بهيميةٍ، على غرار غريب الأمراض والتشوهات، وتفسد روحه، يجوز أيضا قتله، بل يجب قتله، حسب تلك الثقافة التي انتشرت في القرون الوسطى.

لم نخرج، فيما أعتقد، من ثالوث ملائكة، بشر، شياطين، الذي تتحكم في ثقافة العصور الوسطى التي يحج إليها الإرهابيون أحياء وأمواتا، وما راكمناه من معارف وتقنيات ودستور، يكاد ينهار بشكل دراماتيكي، حين يصبح التعذيب مطلباً شعبياً.

سننتصر على الإرهاب لا شك، وقد انتصرت عليه شعوب من قبلنا، لا تفوتنا عزماً وبأساً. ولكن، سيكون انتصارنا مغايراً واستثنائياً وذا مغزى، حين ننتصر على غرائزنا ونوازعنا، ونثبت أننا، ونحن نقاوم الإرهاب، نظل بشراً مشدودين إلى حقوق إنسان، حتى وإن كفر بها الإرهابيون.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.