الفراغ السياسي في سورية

الفراغ السياسي في سورية

05 ابريل 2015

عمل لـ(كريستي لامباردياني)

+ الخط -

يخسر النظام السوري مركز محافظة ثانياً وينكفئ أكثر. من إدلب إلى حلب إلى دمشق إلى درعا، يبدو النظام في حالة عسكرية مهزوزة، فيعوض عن هذه الحال بما لديه من قدرة على القصف الانتقامي الذي لم يوفر المشفى الوطني في إدلب، القصف الأعمى الذي غالباً ما يكون ضحاياه من المدنيين الأكثر فقراً. في المقابل، تتقدم وحدات عسكرية إسلامية طائفية، تحتاج إلى مجهر سياسي، لكي تفرز المتطرف منها عن الأقل تطرفاً، والاستبدادي منها عن الأقل استبداداً. بين نظام لم يفكر يوماً سوى بأنجع سبل القتل، وليس بمخرج سياسي حقيقي وجدي ينقذ البلد من الخراب، لأنه يخشى على خراب مصالح طغمته، وليس على خراب البلد، وبين جماعات إسلامية يعميها جهلها وانغلاقها عن رؤية تنوعات الواقع، فترى أن كل من هو ليس "سنياً جهادياً" شبيح من أتباع النظام، بصرف النظر عن أي شيء آخر. من جهة، كل من يعارض النظام "داعشي" وإرهابي، ومن جهة أخرى، كل من ليس سنياً جهادياً هو من أتباع النظام وكافر.

على هذا، تحولت الثورة في سورية إلى صراع قطبين من الطينة نفسها، وإن اختلف اللون واختلفت اللغة والمصطلحات. طينة القطبين هي شرهٌ لا محدود للسلطة، وإنكار لا محدود لحقوق الآخرين. وكل ما عدا ذلك من لغة ممانعة، أو علمانية، أو وطنية، من جهة، أو لغة دينية إسلامية من جهة أخرى، ليس سوى رداء للجوهر نفسه. لم تفلح الثورة السورية في بلورة قطب نقيض للنظام المستبد الذي اكتسب في سياق الصراع عناصر فاشية صريحة، يلخصها تعبير يكثر تداوله بين الموالين (كل معارضة خيانة). وكما يحدث عادة في لحظات التأزم الاجتماعي الحاد، لا توجد منزلة بين المنزلتين، ويصبح الاستقطاب الحدي السيد. من ليس هنا بالتمام والكمال هو هناك بالتمام والكمال. حتى يخشى المرء، من كلا المعسكرين، أن تنزلق عبارته عن "صراط مستقيم" فيخوَّن.

المؤسف أن الاستقطاب هذا ليس سياسياً، بل عسكري، أي أنه لا ينبع من تفضيل سياسي، بل من عجز عسكري. ليست جبهة النصرة التي يوهم كثيرون أنفسهم، ضد المنطق والسياسة، بأنها رافعة ثورية، نقيضاً سياسياً للنظام، بل مجرد تحد عسكري له. ولا ينحاز غالبية من ينحاز إلى "النصرة" حباً بمشروع سياسي تمثله (فهي وأضرابها لا تمثل سوى التقهقر والانغلاق، حتى في نظر كثيرين ممن ينحازون لها)، بل لأنها قادرة على إلحاق هزائم عسكرية بنظام فاجر. ويمكن المضي بالقول أكثر إن جبهة النصرة قادرة على إلحاق هزائم عسكرية بالنظام السوري، لأنها ليست نقيضاً سياسياً له، ذلك أن الجهات التي تدعمها إلى الحد الذي يجعلها قادرة على مواجهة النظام، لا تريد نقيضاً سياسياً للنظام، أي لا تريد بديلاً ديمقراطياً.

في إطار هذا الاستقطاب الحاد، من أتاح له تفكيره السياسي، وهواه، أن يتماهى مع أحد القطبين، فقد وجد له مستقراً، وراح يحزن لخسائر قطبه، ويفرح لانتصاراته، وهو يلاحق حسماً عسكرياً لن يأتي (على الأقل وفق المعطيات الحالية). أما من يرفض الطرفين، ولا يستطيع التماهي مع أي منهما، ولم يتقبل منطقه السياسي فكرة أن انتصار أحدهم سيقدم البلاد أكثر باتجاه التحرر من الاستبداد، فتراه قلقاً يبحث عن مستقر، ومن الصعب أن يجد مستقراً. هؤلاء غير القابلين للاستقطاب المتوضع الآن في سورية فشلوا دائماً في تشكيل قطب خاص بهم، على الرغم من كثرة المحاولات. ثمة فراغ سياسي صريح في سورية، وثمة أشخاص خارج الاستقطاب الثنائي الحاد، لكنهم يعجزن عن ملء هذا الفراغ، لأن قوة الاستقطاب تسحقهم، ولأن الصراع بات عسكرياً، فلا قيمة فيه لغير السلاح، ولأن القوى الداعمة لا يمكن أن تدعم قوة ديمقراطية.

هرباً من هذا الوضع القلق، ولكي يجد المرء له مكاناً في خارطة الصراع، يقدم كثيرون من غير الإسلاميين على الالتحاق بالإسلاميين، ليبقى الموقع السياسي للثورة فارغاً من أي فاعلية.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.