الداء والدواء.. في تقبيل الحذاء

الداء والدواء.. في تقبيل الحذاء

30 ابريل 2015

كوثر بشراوي تقبل الحذاء العسكري أمام المشاهدين (إنترنت)

+ الخط -
منذ دقّ الرئيس السوفييتي الأسبق، خورتشوف، منصة منظمة الأمم المتحدة في العام 1960 بكعب حذائه، احتجاجا على أصواتٍ طالبت، عبر المنصة نفسها، باستقلال أوروبا الشرقية عن الهيمنة السوفيتية، صار استخدام الحذاء مألوفا، إلى حد ما، في التعبير عن وجهات النظر السياسية، بطريقة أو بأخرى. واختلفت طرق ذلك اختلافات بينة، فقد استخدمه مواطن عراقي، اشتهر باسم أبو تحسين، بضرب صورة الطاغية صدام حسين، بعد لحظات من سقوط نظامه المدوي في بغداد عام 2003، تعبيرا عن فرح شعبي عارم بسقوط النظام الديكتاتوري، في حين استخدمه، بعد خمس سنوات، مواطنه الصحفي، منتظر الزيدي، لإهانة الرئيس الأميركي الذي أسقط صدام، وهو جورج دبليو بوش، عندما قذفه بالحذاء الذي يسمونه في العراق "القندرة"، في مؤتمر صحفي في بغداد.
ويبدو أن التعبير بالرفض باستخدام الحذاء ساد ثقافة عامة، تحقيرا للهدف المستخدم ضده هذا الحذاء، إلى أن جاء الربيع العربي، وأعقبه الخريف العسكري، فظهرت استخدامات أخرى للحذاء العسكري تحديدا، حيث أصبح يستخدم للتأييد والتبجيل والتكريم، وربما المازوخية والجلد الذاتي، في نظر مستخدمه ضد نفسه!
بعد عزل الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، بانقلاب عسكري دامٍ، انتشرت في وسائل الاعلام صور مصريين، يحمل كل منهم الحذاء العسكري الذي يسمى في مصر "البيادة" فوق رأسه، في مشاهد مهينة ومقززة. وبلغ التقزز مداه، عندما استخدم أطفال في مثل تلك الصور، فبدت رؤوسهم الصغيرة مائلة تحت وطأة ثقل تلك الأحذية التي ربما لا يعرفون لماذا أمرهم أهاليهم بحملها على هذا النحو، والمشي بها أمام عدسات الكاميرات.
صور أخرى مشابهة ظهرت في سورية لمواطنات مسنات، تحمل كل منهن الحذاء العسكري الذي يسمى هناك "البوط" فوق رؤوسهن، وأضافت إحداهن ما رأته عنصراً جمالياً للتخفيف من بشاعة المنظر، فملأت الحذاء بالزهور، وحملته فوق رأسها. وفي لبنان، ظهرت صورة الحذاء العسكري الذي يسمونه "السبّاط"، بدلاً من الصورة الشخصية لبعض مستخدمي مواقع التواصل، مختومة بكلمة "ليحكم"، في إشارة منهم إلى مساندة الجيش، ليتمكن من الحكم.
لا أدري لماذا اختار هؤلاء الحذاء تحديدا، من بين قطع الزي العسكري الأخرى، لرفعه فوق رؤوسهم، إلا إن كان الهدف حقا إظهار التذلل والعبودية والانسحاق النهائي تحت الوطأة العسكرية في أبشع صورها الديكتاتورية الحاكمة، وليس التأييد وحسب. فلو كان التأييد هو الهدف، لاختاروا، مثلاً، القبعة العسكرية ليضعونها فوق رؤوسهم، حيث موقعها الطبيعي فوق الرأس. أما أن يختاروا ما هو للقدم ليكون فوق الرأس، مع رمزية هذا الفعل في الثقافة العربية، فهذا يبعث على الأسى.
أغلب رافعي الأحذية فوق الرؤوس بسطاء مغيبون، وهذا ليس عذرا لهم، لكنه يبدو كذلك إذا ما ظهر ما يناقضه. وأشير، هنا، إلى الإعلامية كوثر البشراوي التي تقدم نفسها، ويقدمها كثيرون، نموذجاً للإعلامية المثقفة، منذ اشتهرت بتقديم البرامج الثقافية، لكن هذه الصورة الأنيقة لم تمنعها من الظهور على الشاشة، قبل أيام، تحتضن حذاء عسكرياً سورياً، ثم تقبله بطريقة مثيرة للاشمئزاز، بغض النظر عن الهدف منها، والرسالة التي تحملها.
لست أناقش هنا آراء البشراوي، ولا تذكيرها بأن كثيراً من هذه الأحذية التي سبق أن داست على رؤوس الأطفال بأمر الحاكم الديكتاتور، فهي تعرف ذلك، وتتجاهله بل وتتجاهل سورية كلها في سبيل بقاء الديكتاتور، وفقا لتغريدة منسوبة لها تقول؛ "إذا رحل الأسد، لا سمح الله، سأحذف سورية عن خريطتي"، لكني فقط أستغرب لماذا تلجأ، وهي الإعلامية، التي تملك من وسائل التعبير ما لا يملكه كثيرون، إلى هذه المازوخية الشاذة التي تبدو كأنها الداء والدواء؟
عموماً، لا يليق بالطغاة إلا أن يؤيدهم من هم على هذه الشاكلة، و"من يهن الله فما له من مكرم".
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.