الثورة المصرية والتسوية الإقليمية.. المسارات والإشكاليات والبدائل

الثورة المصرية والتسوية الإقليمية.. المسارات والإشكاليات والبدائل

19 ابريل 2015

غرافيتي عن أحداث شارع محمد محمود في القاهرة (أ.ف.ب)

+ الخط -

مع تصاعد العمل الثوري في مصر، وظهور حراك نوعي مع الإعلان عن تأسيس حركات تنتهج خطاً أُطلق عليه "المقاومة الشعبية"، عبر التصدي المسلح جزئياً لتجاوزات قوات أمن الانقلاب، وإذ جاءت، من ناحية ثانية، تطورات الأوضاع الإقليمية، مع وفاة الملك عبد الله في السعودية، وتحولات الوضع في اليمن وليبيا وسورية والعراق، تسارعت الدعوات لتسوية الأوضاع في مصر، وظهور دعوات للمصالحة الوطنية الشاملة، من خلال أطراف عربية وإقليمية. وبقراءة فاحصة لعدد من نصوص هذه المبادرات، يمكن الوقوف على عدد من الاعتبارات التالية:

أولاً: التعويل على الدور السعودي، تم التأكيد عليه عبر مستويات عديدة، بعد التحولات الداخلية التي شهدتها المملكة، وتصريحات الملك سلمان بن عبد العزيز أن بلاده لعبت دوراً لا يرضى عنه، وأنه بسبب هذه السياسات تم ظلم كثيرين، وقتل أبرياء عديدين، وسجن آخرين. وتأكيده على أن السعودية ستبقى "الأخ الأكبر" الذي يرعى أشقاءه العرب والمسلمين، ووعد أن تتحسن سياسة بلاده في ما يخص مصر، وباقي دول الربيع العربي.

ثانياً: صرح وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، بشأن عدم وجود مشكلة لبلاده مع جماعة الإخوان المسلمين، بالتزامن مع زيارة ولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، إلى قطر، وهي أول زيارة خارجية له منذ تولى موقعه. واعتبر بعضهم هذا التزامن رسالة من المملكة إلى محيطها الإقليمي، فضلاً عن العالم، بأن التوتر الذي شاب علاقات الرياض والدوحة، واختلاف وجهتي نظر البلدين بشأن بعض القضايا انتهى، وأن هناك توافقاً على رؤية البلدين لملفات عدة، كما في موضوع اليمن و"عاصفة الحزم"، وشبه توافق في ملفات أخرى، منها الملف المصري. وتفتح تصريحات الفيصل عن عدم وجود مشكلة بين المملكة وجماعة الإخوان المسلمين الباب لتساؤلات، من قبيل أن الرياض لم تعد تسأل: هل هناك ضرورة للحوار بين السلطة وجماعة الإخوان بمصر؟ وإنما السؤال الملح: متى يبدأ الحوار بين سلطة السيسي ومعارضيها؟

وقد ربط بعضهم بين هذه التصريحات والأحداث، منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في البلاد، عن احتمال تغيّر في سياسة السعودية، الداخلية والخارجية، وإمكانية التصالح مع جماعة الإخوان المسلمين، لمواجهة المد الشيعي في المنطقة، بعد مواجهة "الحوثيين" في اليمن عسكرياً، وكذلك مواجهة خطر التطرف الذي يقوده تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، على اعتبار وسطية جماعة الإخوان.

وعزز من هذه التوجهات قول أحمد التويجري (عضو سابق في مجلس الشورى السعودي)، إن "من غير المعقول" اعتبار جماعة الإخوان منظمة إرهابية، وأضاف: "المملكة لا تستطيع أن تصف جماعة الإخوان بأنها إرهابية. أخذ هذا المفهوم وتطبيقه بشكل عام على منظمة كبيرة تمتد من إندونيسيا إلى المغرب، ويتم اتهامها بالإرهاب، فهذا أمر غير مقبول من شخص عاقل". وأضاف: "المملكة ليست لها مشكلة مع هذه الجماعات والعكس صحيح، وينبغي عليهم أن يكونوا حلفاء للمملكة، وأن توجد بينهم وبينها علاقات استراتيجية".

ثالثاً: مع تعدد الكتابات والتوقعات عن احتمالات طرح مبادرات للتسوية في مصر، والربط في هذا الإطار بين عدد من الأطراف الإقليمية، مثل تركيا والسعودية وقطر، التي يمكن أن تتبنى مثل هذا الطرح، مع وجود رعاية أميركية وأوروبية، يبقى السؤال الأهم عن المواقف التي يمكن أن تتبناها القوى الثورية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، وهنا تبرز عدة إشكاليات، وفي مقابلها عدة اعتبارات حاكمة للموقف من هذه البدائل:


وضع الجيش
من أهم الإشكاليات التي تواجه المسار التفاوضي من جانب القوى الثورية مع النظام التسلطي القائم في مصر، حالياً، وضع المؤسسة العسكرية في النظام السياسي. وهنا، تبرز أمام المفاوضين عدة بدائل، يقع الاختيار بينها، وكل منها يواجه صعوبات وتحديات عديدة، وهو ما يبرز في:

البديل الأول: القبول بمشاركة الجيش في السلطة، سواء عبر عضوية أحد المحسوبين على المجلس العسكري في مجلس رئاسي انتقالي، وسيلة من وسائل الترضية للمؤسسة العسكرية أمام حاجة الأطراف الإقليمية والدولية لدورها في المرحلة الراهنة، ولتسهيل التوصل إلى اتفاق يمكن تنفيذه، ولضمان عدم استهداف قادة هذه المؤسسة وأركانها في عمليات تطهير، تفرضها الممارسات التي قامت بها منذ ثورة يناير، وتفاقمت بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز، ووجود وثائق وشهادات عديدة تؤكد تورطهم في جرائم عديدة تتطلّب العقاب.

البديل الثاني: مطالبة الجيش بالإشراف على إجراءات نقل السلطة، من دون مشاركة فيها، كمراقبة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها، ولضمان السيطرة على مسار العملية السياسية، أيضاً لضمان الخروج الآمن.

البديل الثالث: خروج الجيش بالكامل من العملية السياسية، والقيام بدوره في حماية الحدود وتأمينها، مع الحفاظ على استثماراته الاقتصادية وميزانيته المالية، مع الالتزام بإجراءات الشفافية والحوكمة للمؤسسة العسكرية، في ظل رقابة إدارية وتشريعية كاملة على أعمالها وميزانيتها.

البديل الرابع: التطهير الكامل للمؤسسة العسكرية، ومحاكمة رموزها، وكل المتورطين من المنتسبين إليها عن كل ما ارتبط بهم من جرائم وممارسات في السنوات الأربع الأخيرة.


حقوق الشهداء والمصابين، المعتقلين
تثير هذه القضية إشكاليات عديدة أيضاً، وتطرح بدائل:

الأول: صدور بيان تطميني بالحفاظ على حقوق الشهداء، مع تقديم ضمانات حقيقية من الدول الراعية للاتفاق، وهنا يمكن أن تعلن المملكة العربية السعودية أن ترويجها مبدأ الدية، وإعلانها استعدادها لدفع المبالغ التي سيتم الاتفاق عليها في هذا السياق.

الثاني: الإعلان عن إجراء محاكمات للمتورطين، والكشف عن أسمائهم، ورفع دعاوى قضائية داخلية ودولية ضدهم، استناداً إلى تقارير حقوقية دولية وإقليمية ووطنية أكدت ممارساتهم.

الثالث: الربط بين تعويضات الشهداء والإفراج عن المعتقلين، ووقف تنفيذ الأحكام بحق المطاردين والملاحقين، وكذلك الإعلان عن تأسيس هيئة تشرف على قضايا التعويضات، في إطار تبني استراتيجية التسويف التي تتبناها النظم السياسية المصرية المتعاقبة، في التعامل مع القضايا الجدلية، وتموت بمرور الوقت.


الموقف من مرسي
يشكل الموقف من الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية المنتخب، أحد أهم الإشكاليات التي تواجه المسار التفاوضي، إذا تبنته القوى الثورية، في ظل حالة عدم الاتفاق بين رموز هذه القوى حول هذا الموقف من ناحية، وعدم الاتفاق على آليات محددة للتعاطي معه، ووجود فجوة بين القواعد الشبابية والحركية، وخصوصاً الإخوانية، من ناحية، المنادية باعتبار عودة مرسي شرطاً رئيساً لأية مسارات تفاوضية، ليس في شخصه، ولكن في رمزيته، وبين قيادات سياسية للقوى الثورية ترى إمكانية التراجع عن هذا الشرط، إذا كان المطروح في القضايا الأخرى يشكل مكسباً سياسياً واستراتيجياً. وهنا تبرز عدة بدائل:

الأول: العودة الكاملة غير المنقوصة لاستكمال مدته الرئاسية، ضمن إطار تشاركي، يتم التوافق عليه، وخصوصاً أن الفترة الزمنية التي مرت بعد انقلاب 3 يوليو أكدت مدى المصداقية والشفافية التي كان يتمتع بها، وأكدت رشادة سياسات عديدة كان يتبناها، وكذلك أكدت هذه الفترة حجم المؤامرات والمخططات الداخلية والخارجية التي استهدفته، وسعت إلى إسقاطه.

الثاني: عرض الأمر للجماهير، من خلال الإعلان عن تنظيم استفتاء شعبي، تحت إشراف دولي، يُقرر فيه المواطنون بقاءه لاستكمال مدته، أو إجراء انتخابات رئاسية جديدة، خلال مدة يتم الاتفاق عليها بين القوى الثورية، على أن يكون من حقه، حال الموافقة على إجراء انتخابات جديدة، الترشح لها من دون قيد أو شرط.

الثالث: عدم عودة مرسي، والإعلان عن تشكيل مجلس رئاسي مدني (3 أو 5)، يتم التوافق عليه من الدول الراعية للتسوية، بترشيحات من القوى الثورية، وتكون الرئاسة فيه بالتناوب دورياً مدة عام.

الرابع: العودة الرمزية، من خلالها يتم الإعلان عن عودته، ثم يفوّض شخصاً أو لجنة أو مجلساً للقيام بمهام الرئاسة، حتى يتم إجراء انتخابات جديدة، خلال مدة يتم الاتفاق عليها.

الخامس: التنازل وإعلان التنحي عن السلطة، وترك الأمر للقوى الثورية للتوافق في ما بينها حول المسار الثوري وخارطة الطريق البديلة.

السادس: التساومي، وفيه يتم طرح خيار اختفاء عبد الفتاح السيسي من المشهد في مقابل عدم عودة مرسي، ويتم وضع الخيارات البديلة لإدارة المرحلة الانتقالية، بما تتفق عليه القوى الثورية.


دستور 2012 ومجلس الشورى 2012
لم يكن هناك توافق كبير على دستور 2012 بين القوى الثورية، كما أن هناك تصريحات عديدة صادرة من رموز القوى المؤيدة للشرعية بعدم ملاءمته للتوجه الثوري المطلوب تبنيه بعد كسر الانقلاب، ولا في شكل الدولة المتوافق، إلى حد كبير، مع الشكل الأصلي المركزي للدولة القائم قبل الثورة، ولا الحصانة المعطاة لعدد من أصحاب الوظائف العامة، وبالتالي، من المرجح أن يتوافق الجميع على المراجعة الشاملة لهذا الدستور في أثناء المرحلة الانتقالية، على أن تتم إدارة البلاد خلالها، وفقاً لإعلان دستوري يُتوافَق عليه بين القوى الثورية، ويتم استفتاء الشعب عليه.

ويتشابه الموقف من هذا المجلس مع الموقف من دستور 2012، وأعتقد أنه لا يمكن أن يكون محلاً لجدل كبير بين القوى الثورية، أو يكون كذلك محلاً لاهتمام ممّن سيطرحون مبادرة لتسوية الأوضاع في مصر، لأنه، أيضاً، لم يكن عليه توافق كبير بين القوى الثورية، كما أن هناك احتياج لمزيد من التشاركية في أثناء المرحلة الانتقالية، ما يستلزم إبداع شكل جديد، يقوم على مهمة التشريع في المرحلة الانتقالية، حتى الوصول إلى المرحلة التي يمكن فيها إجراء انتخابات تنافسية.

المرحلة الانتقالية
يمكن أن تراوح المرحلة الانتقالية بين عامين وأربعة، وتعتمد في تفاصيلها على ما سيتم التوافق عليه بالنسبة لوضع الرئيس، ويحبذ تشكيل مجلس ثوري تشاركي يشمل القوى الثورية المختلفة، ليكون حارساً وراعياً وقيّماً على تنفيذ أهداف الثورة، ومراقباً للمؤسسات التنفيذية والتشريعية المختلفة، للتأكد من استمرار المسار الثوري بشكل سليم. بالإضافة إلى ذلك ينشأ مجلس تشريعي وطني توافقي، أيضاً، ويتولى مهمة التشريع. أما السلطة التنفيذية، فتتوزع بين مؤسسة الرئاسة والحكومة الانتقالية التي تكون حكومة توافق وطني، تتولى إدارة أمور البلاد في فترة زمنية محددة، إلى حين إجراء انتخابات برلمانية، أو رئاسية، وفق ما سيتم التوافق عليه، ويبدأ، بالإضافة إلى ذلك، تفعيل الإدارة المحلية، وإعطاؤها سلطات أكبر لإدارة شؤون المحليات، بما يسير نحو اللامركزية، لتفكيك مؤسسات وبنية الفساد والاستبداد التي ترعرعت بالاستفادة من الحكم المركزي.

ويمكن إصدار إعلان دستوري يحدد سلطات هذه المؤسسات، وكيفية تشكيلها والعلاقات بينها في أثناء الفترة الانتقالية، على أن يتم الاستفتاء عليه شعبياً.


الاعتبارات الحاكمة
أمام تعدّد الإشكاليات التي تثيرها قضية التسوية في مصر، تبرز مجموعة من الاعتبارات التي يجب أن تكون حاكمة لمواقف القوى الثورية، من أية مبادرات للتسوية:

الجدية والمصداقية: إلى أي مدى هناك جدية من الأطراف الدولية والإقليمية لطرح مبادرات للتسوية في مصر؟ وما هي الضوابط والمعايير التي سيتم الاستناد إليها في هذا الطرح؟ هل سيكون المعيار نجاح الثورة المصرية، وترسيخ قيم التحوّل الديمقراطي؟ أم الحفاظ على مصالح العسكر وامتيازاتهم، في ظل حاجة بعض هذه الأطراف للمؤسسة العسكرية لبعض المهمات الخارجية؟ أم سيكون المعيار إيجاد توازن استراتيجي بين الأطراف الفاعلة في الداخل المصري، بحيث لا يشعر طرف بتفوّق أو نجاح نسبي؟

القدرة على الاختيار: أي هل تملك القوى الثورية القدرة على الرفض والقبول، حال طرح مبادرة تتمتع بتوافق بين دول، مثل السعودية وتركيا وقطر، ومن المتوقع حال الرفض أو التحفظ على ما يطرح أن يتأثر هذا الدعم بشكل سلبي؟

محددات القبول والرفض: أي ما هي العوامل الأساسية التي ستعتمد عليها القوى الثورية في التعاطي مع مثل هذه المبادرات، وهل هناك ثوابت من غير المقبول التجاوز عنها، حتى يتم القبول بهذه المبادرات؟ وما هي أوراق القوة أو الضغط التي تمتلكها القوى الثورية، لرفض هذه المبادرات، حال عدم تحقيقها ثوابت هذه القوى ومطالبها؟

القبول بالتوافق ابتداءً: بمعنى هل هناك استعداد بين القوى الثورية للقبول بالمسار التفاوضي ابتداءً، أم أن هناك اتفاقاً على المسار الثوري، واعتبار الصراع وجودياً بين الحكم العسكري من ناحية ومنظومة فساد الدولة العميقة، وبين الثورة وقيمها وترسيخ عملية التحول الديمقراطي؟ وهل يمكن الفصل بين التعامل بين القوى السياسية والتعامل مع المؤسسة العسكرية في هذا الأمر، مع ضمان حد أدنى من المطالب الثورية التي لا يمكن التنازل عنها؟

ختاماً: أمام صعوبة حسم إجابات عدد من هذه التساؤلات، يتطلب الأمر قيام القوى الثورية بعدة إجراءات، للتأكيد، ابتداءً، على الثوابت التي لا يجب التنازل عنها، مهما كانت التحديات والمبادرات، أو من يقف خلف هذه المبادرات، مع أهمية وجود مزيد من التواصل والتنسيق بين القوى الثورية، للوقوف على مواقفها، واتخاذ قرارات مشتركة، بما لا ينال من مصداقية أي طرف في القيام بالتفاوض والتواصل منفرداً، وترسيخ مبدأ الشفافية في كل التحركات ونشر الحقائق والمواقف، أولاً بأول، بقدر الإمكان، لضمان تأكيد الثقة والمصداقية بين مختلف الفصائل والتيارات السياسية.

ومن ناحية ثانية، في حال قبول بعض القوى الثورية بتسوياتٍ لا تضمن توفير الحدود الدنيا من مطالب الثائرين (كالقصاص للشهداء، وعودة الشرعية، وعودة الجيش لثكناته، ومحاكمة كل المتورطين في الانقلاب، والعدالة الانتقالية الناجزة)، فإن هذا يزيد من عمق الفجوة بين قيادات القوى الثورية وقواعدها، وقد ينال من مصداقية هذه القيادات، كما قد يدفع إلى مزيد من العنف غير المسيطر عليه في الداخل المصري، ما يتطلب دراسة كل الأبعاد والبدائل وكيفية التعاطي معها، وحسابات المكسب والخسارة، تكتيكياً واستراتيجياً.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).