الإسلام يجدد لفرنسا علمانيتها؟

الإسلام يجدد لفرنسا علمانيتها؟

10 مارس 2015

تظاهرة يسارية ضد الفاشية ومعاداة الإسلام في فرنسا (16نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما بين الإسلاموفوبيا والنزوعات اليمينية المتطرفة، وبين الخوف من الطائفية والتقوقع الهوياتي، الهوية القاتلة، بمصطلح أمين معلوف، يقيم سؤال الدين الإسلامي في حقيقة الراهن الفرنسي، كما لو أن الإسلام يجدد لفرنسا لائكيتها التي أعلنتها صراحة، منذ القرن الثامن عشر وميلاد الأنوار.

ولعلها المرة الأولى التي تواجه فيها فرنسا عقيدة دينية، تطرح عليها العلاقة بينها وبين الدين، منذ 1789، تاريخ تجسد اللائكية الفرنسية بعد الثورة الشهيرة، وإلغاء النظام القديم، وإقرار المبادئ الكونية، بإعلان نهاية الامتيازات التي كانت تحظى بها الكنيسة ورجال الدين الإكليروس.

ليس مطروحاً على فرنسا درجة تحرر الدولة من علاقتها بالإسلام، لأن الإسلام، ببساطة، لا كنيسة فيه، لكن المطروح كيفية التعامل مع المسلمين الذين يشكلون، اليوم، بؤرة قلق ديموغرافية وروحية.

فرنسا التي بنت الكونية الجمهورية أمامها، اليوم، دين كوني بذاته، ويطرح عليها سؤالاً مجتمعياً كبيراً. ولهذا، تفكر في تحرير جمهورييها المسلمين من التأثير الذي تحمله الهوية في حد ذاتها، وتحرير الفضاء العمومي من الطقسنة، أو الإغراق الطقوسي لفضاء يفترض فيه أنه متحرر من العلامات الدينية.

وهي لحظة تاريخية أخرى بالنسبة لبلاد فولتير ومونتيسكيو، لأن العلمانية لديها تعتبر لحظة تاريخية، وليست دعوة أيديولوجية، بتعريف المفكر والمؤرخ المغربي عبدالله العروي. وإذا كنا، أحياناً، نسلم بأن النقاش كله قد استنفذ، وأن التاريخ ينام مطمئناً في الكتب، ولا يتجول خارج الجدلية التي حددها الهيغيليون والماركسيون الأوائل، فإنه يفاجئنا بأن يدخل ضواحي باريس لعله يجد أجوبة على أسئلةٍ، لم يطرحها الخلفاء الراشدون، رضي الله عنهم، لكنها تعود في أذهان أحفادهم من الجيلين، الثاني والثالث، من المهاجرين والأنصار.

وهذه كناية لا تقول أكثر من مفارقتها التي تحيل على تاريخ بعيد جغرافياً عن الإسلام، قضايا هي من صميم تعايشه مع الزمن والمستحدثات التي تغذيه في عصرنا إعادة ابتكار العلمانية الفرنسية، على ضوء العلاقة مع الإسلام الفرنسي، تهمنا كثيراً، أولاً، لأنها تعني هجرة العلامات الدينية من فضائها الذي شكلت هويته الدائرة العربية السامية، إلى فضاء آخر، أغرى الفاتحين الأوائل، ويغرينا بتفكيره العلني والموضوعي وصراع التيارات فيه، فضاء تمتحن فيه الهوية العربية الإسلامية قدرتها على تحمل العصر، والتكيف مع كونية شديدة الحضور.

وثانياً، لأنها المرة الثانية التي يصادف فيه الإسلام نفسه أمام جمهورية لائكية، راديكالية، بعد مواجهة العلمانية التركية وعلمانية أتاتورك التي ولدت من صميم الخلافة. وكانت العلمانية، في تلك الحالة، أيضاً، تواجه حلم الخلفاء الراشدين، كإرث وتراث، وتواجهه فرنسا كتراث وإرث يغذي أحلام الأحفاد.

وفي الحالة التركية، كان هذا التقابل على قاعدة استعصاء تاريخي منتج، سبباً في تطوير الإسلام السياسي أدوات عمله، واستيعابه الآلية الديمقراطية، ونجاحه في أن يقبل كشريك تاريخي واستراتيجي من الغرب كله، مع احترامه موقع الدولة وإكراهاتها، التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل، مثلاً، وبتلخيص فقد واجهة علمانية أتاتورك، ومن خلالها استطاع أن يولف بين نفسه وبين الديمقراطية. وفي حالة فرنسا، يواجه الإسلام علمانية راديكالية، يسهر عليها اليمين اللبرالي واليسار بقوة، وعليه أن يجيب من خلال مواجهتها على أسئلة يطرحها عليه العصر.

ويبدو أن الفضاء المعني بهذه التطورات غير آبه بها. وعلى كل الأصعدة، أصبح الاختيار الممكن هو بين تدين إسلامي داعشي، أو تدين إسلامي سياسي وحزبي، وبين تدين محافظ يستند إلى أخلاق البرجوازية البدوية، وتنظيمات الإصلاح البيداغوجي. ومن الغريب أن الحاكم العربي يحتاج، في مواجهة الإمكانات التي قد تتيحها لعبة الديمقراطية، بالنسبة لجيل من رواد الإسلام السياسي أو أتباعه، إلى إعادة ربط الدولة بالدين، إسلاماً أو كنيسة.

وفي حالات أخرى، يسعى اليسار في العالم العربي إلى إحياء السلطة الدينية الرسمية، والدفاع عن مشروعيتها لحماية نفسه من سلطة التدين المسيس، من دون أن تكون له القدرة على الدفاع عن تطورها وانفتاحها، والدفاع عن بقائها وديمومتها، في أفق الثقافة الكونية التي ينتمي إليها.

كتب إيتيان إنهايم، الفرنسي المتخصص في الإسلام، بلغة رائعة عن الانشغال الفرنسي، الآن، ودعا، بوضوح، إلى القطع مع نظرة كاريكاتورية لعالم سجين، بسبب دينه، في البحث عن بديل بين التيوقراطية، حكم رجال الدين والاستبداد. والسؤال هنا: أليس هذا الأمر مطروحاً، بالأساس، على المسلمين، قبل أن يكون سؤالاً فرنسياً؟ ولعله من حسنات التقابل بين لائكية فرنسا والإسلام أننا نعرف، الآن، هامش التاريخ الضيق لدينا.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.