أبعد من سد النهضة

أبعد من سد النهضة

01 ابريل 2015

من الإنشاءات في مشروع سد النهضة في إثيوبيا (Getty)

+ الخط -

يثير اتفاق الإطار بين إثيوبيا ومصر والسودان بشأن سد النهضة الإثيوبي النقاش عن انعكاس تطور السياسة الإثيوبية على منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، فالاتفاق يأتي ضمن حزمة من الأوضاع الإقليمية والدولية التي تتقاطع مع قضايا النطاق الأفريقي، ويمكن تناول أن السياسات المستقبلية سوف تتوقف على اختلاف درجة تطور النظم السياسية. وهنا، تبدو أهمية الاقتراب من اتجاهات تطور السياسة الإثيوبية في العقدين الماضيين، وتلمس مدى تماس الدولة واستقرار ملامح وخصائص نظام الجبهة الثورية، الذي وضعه ميلس زيناوي في عام 1991.

على الرغم من مرور إثيوبيا بمراحل صراع مسلح منذ عام 1974، واقترابها من حالة التفكك والتداعي، حافظ الإطار الدولي، في بداية التسعينيات، على تماسك الدولة فيها وحمايتها من الانهيار والتفكك، مع ترتيب الأوضاع في القرن الأفريقي، في فترة سقوط نظام منغستو هيلي مريام، بحيث تكون إثيوبيا الدولة الأكثر تماسكاً في الشرق الأفريقي، فعلى الرغم من تقارب فرص سقوط نظامي منغستو وسياد بري في الصومال، كان سقوط بري وهروبه في 21 يناير/كانون الثاني 1991، ثم سقوط النظام العسكري الإثيوبي أيضاً في مايو/أيار من العام نفسه، واحداً من مؤشرات إسناد تماسك إثيوبيا، ومنعها من الانهيار.

كما ساهمت التغيرات السياسية في استقلال إريتريا واقعياً في 29 مايو/أيار 1991، وبدأت تأخذ زخماً سياسياً مع انعقاد مؤتمر أديس أبابا في أول يوليو/تموز من ذلك العام، لتكوين حكومة انتقالية في إثيوبيا، ليتم الاعتراف باستقلال إريتريا، بعد إجراء استفتاء شعبي كانت نتيجته تأييد الاستقلال، لكنه لم يضعف الكتلة الإثيوبية التي تتكون من التجراي والأمهرا والأورومو والقوميات الجنوبية.

وكان واضحاً، في تلك الفترة، أن السياسات الأميركية في إدارة الصراع في القرن الأفريقي قامت على منع تفكك إثيوبيا التي تكونت في القرن العشرين، فقد كشف دور وليام كوهين (مساعد وزير الخارجية الأميركي) في هيمنة القوميات التاريخية للحبشة (التغراي والأمهرا) على القوميات التي تم ضمها حديثا للكيان الإثيوبي، وفي مقدمتها قومية "الأورومو" و"العفر" والقوميات المتعددة في الجنوب الإثيوبي.

وقد استفادت إثيوبيا من هذه الإمكانات في وضع سياسة خارجية، تقوم على أولوية الجوانب الأمنية، وتم تطويرها لتشمل التنمية الاقتصادية، فبعد عام 1991 ارتكزت السياسة الخارجية على قيام إثيوبيا بدور إقليمي، لخدمة خطط التنمية ومنع انفصال القوميات، غير أن المشكلة التي واجهت صياغة توجهات السياسة الخارجية من 1991 – 2002 لم تربط ما بين السياسة الخارجية والتنمية الاقتصادية، وركزت بشكل أساسي على الأبعاد العسكرية والأمنية، لحماية المصالح الوطنية وضمان بقاء إثيوبيا بلداً موحداً، تتراجع فيه التهديدات الخارجية. ولكن، مع بداية العقد الماضي، اتجهت السياسة الإثيوبية إلى التركيز على التنمية الاقتصادية وحدها من مكونات العلاقات الخارجية.

ومنذ عام 1994، ومع طرح الدستور للاستفتاء، ظلت مسألة حق تقرير المصير تشكل واحدة من معضلات الدولة في إثيوبيا، لكنْ، بغضّ النظر عن المعضلات الدستورية، اتبعت "جبهة تحرير شعب تغراي" سياسة لفرض وحدة الدولة بالقوة، وقمع الحركات الانفصالية، بحيث تمكنت مع انتهاء انتخابات 2010 من احتكار السلطة، تحت مظلة تحالف "الجبهة الشعبية الثورية الإثيوبية"، لتمهد للانتقال إلى المرحلة الثانية من بناء النظام السياسي في إثيوبيا وملء الفراغ الذي تركته وفاة ميلَس زيناوي، المنظر الأيديولوجي والشخصية المحورية في السياسة الإثيوبية، وهي مرحلة تتسم بتراجع النزعات الانفصالية، وتدهور أحزاب المعارضة والحركات المسلحة.

وعلى الرغم من أن التغراي يشكلون أقلية (6 – 8 % من السكان) فقد تمكنوا من تأسيس نظام حكم يقوم على الحزب الواحد، يحتكر كل إمكانات الدولة وقدراتها، وتمكّن من مواجهة تحديات كثيرة، كان أهمها قمع الحركات الانفصالية، وفرض وحدة الدولة خياراً وحيداً. وفي ظل السياسات القمعية، استطاعت الحكومة الإثيوبية بسط سيطرتها على كل القوميات، وبعد انتخابات 2005، اتجهت إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، للتمهيد لتبني سياسة خارجية، قارية على مستوى أفريقيا.

وبمقارنة هذا الوضع بحالة النظم والحكومات في القرن الأفريقي وحوض النيل، وهذا ما يكشف عن وجود فجوة زمنية في التغير السياسي للنظم السياسية، فبينما بدأت إثيوبيا في إعادة بناء الدولة في 1991، فإن بلدان حوض النيل، باستثناء كينيا، ظلت عملية بناء الدولة متعثرة، وهشة، وتسودها الاضطرابات، وينطبق ذلك على السودان التي بدأت مرحلة التغيير بعد انقلاب 1989، ومصر التي دخلت حيز التغيير السياسي في فترة متأخرة في 2011. ويساعد هذا التباين في مرحلة بناء النظام الجديد في تفسير اتجاهات السياسة الخارجية لدول حوض النيل، في المرحلة الحالية، والتي صارت تتوافق على محورية الدور الإثيوبي وثقله في المنطقة، بحيث صارت مقراً للاجتماعات وتوقيع الاتفاقات، وهي مسألة بالغة الأهمية، تعكس طبيعة موازين القوة في إقليم حوض النيل.

أولويات إثيوبيا تجاه المياه

هنا، يمكن القول إنه بعد توقيع "جبهة تغراي" اتفاقاً حول سد النهضة، فإنها سوف تدخل انتخابات مايو/أيار المقبل تحت مظلة إنجازات سياسية واستراتيجية وفيرة، تطيح بالنزعات الانفصالية، وتضعف عوامل التوتر الداخلي، حيث يتلاقى الوصول إلى اتفاق سياسي حول سد النهضة مع أهداف السياسة الخارجية التي تحددت في 2002، والسياسات التنموية التي طرحتها في انتخابات 2010، فالفكرة المحورية التي قام عليها النظام السياسي تتمثل في تحويل إثيوبيا مركزاً سياسياً وتجارياً على المستويين الإقليمي والأفريقي. وكان من الواضح أن اندلاع الحرب مع إريتريا في 1998 كانت في إطار الصراع على النفوذ الإقليمي، وهي لا تختلف، في جوهرها، عن سعي إثيوبيا إلى فرض شروطها في محادثات سد النهضة، وتكييفه على أنه مسألة داخلية، لا تسبب أضرارا للدول الأخرى.

ومن الناحية القانونية، تمكنت إثيوبيا من تغيير الإطار القانوني لمجرى النيل، وعلى الرغم من أنه ركز على احترام المصالح المشتركة، إلا أنه خفف من القيود على دول المنبع في تقرير سياساتها، وهي من المبادئ الجديدة التي تقلل من أهمية "التشاور المسبق"، أو "الإدارة المشتركة" للمشروعات وتخزين المياه، ويعد تحريك الأساس القانوني خطوة مهمة بالنسبة لإثيوبيا، سوف تعمل على توظيفها في سياستها الخارجية تجاه دول الحوض والقرن الأفريقي، ليس فقط ما يتعلق بالمياه، ولكن، في استثمار الطاقة.

فالانتصارات الانتخابية التي حصلت عليها الجبهة في 2010 سوف تتعزز، ليكون تحالف الجبهة الثورية الحزب الواحد في البلاد، مما يعني وجود فرصة لاستكمال مشاريع السياسة الخارجية، ليس فقط ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، ولكن، ما يرتبط أيضا بالهيمنة على السياسات الإقليمية، فقد تبلورت أفكار "تغراي الكبرى" أو إثيوبيا الكبرى" منذ طرح الاتفاق الإطاري حول مياه النيل في 2010 (عنتيبي ـ أوغندا)، واعتباره إطاراً وحيداً في اجتماعات دول الحوض في شرم الشيخ" في العام نفسه، وهو ما يعكس قدرة إثيوبيا على صياغة سياسة توسعية، تمتد آثارها إلى الدول الأخرى.

لعل المسألة المحورية، هنا، ترتبط بالمفاوضات حول تقاسم المياه بين بلدان حوض النيل، وهي تتأثر بعاملين أساسيين؛ يتعلق الأول باختلال التوازن السياسي بين دول حول النيل، بما يتيح فرصة لدول المنابع لفرض رؤية يكون من شأنها إعادة هيكلة معايير تقاسم المياه وتحديد حصة كل دولة. أما العامل الثاني، فإن فكرة سد النهضة تعكس، في ذاتها، طرح إمكانية التحكم في توزيع المياه من المنبع، والتي يمكن تطويرها، في فترات لاحقة، في تحويل سياسات التخزين في بحيرة "تانا" والروافد المباشرة لها، ومن ثم، فإن مفاوضات تقاسم المياه، والتي استمرت عشرين عاماً، سوف تواجه تحديات متجددة، بسبب احتمال طرح معايير جديدة، وارتفاع قدرة إثيوبيا على التحكم في المياه المنصرفة في "النيل الأزرق"، وهذه الحالة غير مسبوقة على مجرى النيل.

وبالنظر إلى وضع إثيوبيا ضمن دول إطار "عنتيبي"، يمكن ملاحظة أن مسار سد النهضة، يقرر أوضاعاً جديدة، لعل أهمها أنه يرسخ سياسات الأمر الواقع، كما أنه معني، أساساً، بترتيب العلاقات بين أطرافه، باعتبار الاتفاق بشأنه جزئياً، ومن ثم، يفتح مشكلات كثيرة حول الأطر الشاملة لحوض النيل، من الجوانب القانونية والسياسية، وخصوصا مع ما يتعلق بتعريف المصالح المشتركة، والتي صارت بدلاً عن الحقوق التاريخية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .