تاريخ البلدان

تاريخ البلدان

21 مارس 2015

سوق شعبي في القاهرة (14أكتوبر/2014/Getty)

+ الخط -

مع مرور الزمن وتقلب الأحوال، نفتقد لطفاء المجالس وحكماء السمر، لهم معشر ومذاق، ولا شأن لهم بزفارة السوق. هم طعم السمر بلا غنائم، لأن معشرهم كان هو الغنيمة ورأس المال. لا يحتاجون للنزول للبرك أو المؤامرة، ففيهم من البديهة ما يكفي، ومن بساطة الحال ما لا يخافون عليه من سوء الظن والريبة. هم، من بعيد، يعرفون الفتن، فيبتعدون عنها خفافاً، وتظل كلماتهم محفورة كحكم، لم يقصدوا أن تكون كذلك، فكانت.

كان الدكتور عبد الباسط شتا طالب طب في الستينيات، ولم يكمل دراسته لأمر ما، لا يخوض فيه لأحد، وعلى الرغم من ذلك، لا تألم، ولا حزن، بل واصل عمله مدرساً للرياضيات في غمرة والفجالة ومصر الجديدة، واحتفظ بغرفة سطوح سكناً له في عمارة جميلة مواجهة (عرب المحمدي)، كانت بالإيجار من أيام الجامعة التي لم يكملها. في بداية الثمانينيات، كنت أعمل مشرف سكن داخلي في بيوت الشباب (أس أو أس) التابعة لقرى الأطفال، وكان هو يأتي إلى القرية، ليدرس للتلميذات والتلاميذ اليتامى بأجور رمزية زهيدة. كان يرى معي عدداً من مجلة "إبداع" في بدايات صدورها، الأقلام العراقية، الثقافة الأجنبية العراقية، فيقلب العدد، ثم يمده لي، ولا يسألني شيئاً. لم أكن نشرت حرفاً واحداً، قال لي: أنت وراك حاجة؟ قلت له: لا. فقال: أنت ضيفي. وركبنا مواصلة من أمام القرية إلى سكنه، وفور دخولي، رأيت مكتبة متوسطة وتلفزيون أبيض وأسود قديماً، وطاولة صغيرة عليها برّاد شاي وكتاب (تاريخ البلدان) وشمعة. وبدأت الحكايات، وكلما ضلّت حكاياتنا، وجاءت السيَر بما لا نقصد، يتدخل باسماً بعبارة لا يغيّرها أبداً: (القعدة دخلت على عرب المحمدي) فنغيّر سير الحكاية، وخصوصاً إذا كنّا أصبنا أحداً
بسوء، ثلاث مرّات نذهب إلى غرفته ونحكي. وفي كل مرة، لا أرى على الطاولة سوى بقية أرغفة وبرّاد الشاي وكتاب (تاريخ البلدان)، وحينما نضل في الحكي، يقول عبارته نفسها هي هي: (القعدة دخلت على عرب المحمدي يا بلدينا)، كان يضيف (بلدينا) ضاحكاً، حينما تكون السِيَر تروق له، وله فيها بعض فضول ونصيب.

تركت العمل في نهاية 1984، على أمل أن أسافر إلى اليمن، ولكني لم أسافر، وعدت إلى القاهرة في 1988. في يوم جمعة، كانت روحي ضيّقة في أوائل التسعينيات، وكنت قد تركت خطيبتي، فتوجهت إلى سوق الجمعة، من دون أي رغبة في شراء أي شيء، فقط كي أذهب بروحي إلى مكانٍ، أرى فيه الناس تجادل بعضها وتضحك، وأول دخولي السوق، اصطدمت برجل بان عليه التعب والإرهاق، في يده قفص صغير به حمامة واحدة، وبقفص آخر عصفوران خضراوان. ابتسمت، وقلت له (مش تحاسب يا بلدينا)، وإذا به يقول: (العتب على النظر يا صعيدي).

جلسنا في أقرب مقهى، وحكى، وقد وضح عليه العمر تماماً والإرهاق، وقال لي إنه بنى بيتاً صغيراً على مساحة 38 متراً قريباً من المقابر، أخذهم إرثاً. كنت ألحظ علامات مرض ما في ملامحه، لكني خفت أن أسأله ساعتها، سألته عن ابن أخته الذي كان يأتيه القرية أحياناً، إذا به، باسماً وبمرارة، يقول مداعباً لي: (القعدة داخلة على فين يا بلدينا)، ثم أكمل: (الله يسامحه)، رددت عليه: (القعدة داخلة على عرب المحمدي يا دكتور). ضحك وقال: (يا ريت، دي داخلة على حتة سودة). ثم قال: (عموماً، القعدة، أنا عرفت آخرتها)، وأشار إلى شواهد المقابر المنصوبة قريبة منّا. لا أعرف لماذا تذكّرت دكتور عبد الباسط شتا بالأمس، على الرغم من أنني لم أره من عشرين سنة.