فساد الحاكم وأخلاق الرعية

فساد الحاكم وأخلاق الرعية

16 مارس 2015

عمل لـ(أندرو سيفالدين)

+ الخط -

تنازع الموروثَ الدينيَّ مبدآن متعارضان، يرى الأول أن صلاح الحاكم في صلاح الرعية، ويرى الآخر أن صلاح الرعية مشروط بصلاح الحاكم. وقد كرّست الثقافة التقليدية المبدأ الأول، فلعبت بعض المؤسسات الدينية الرسمية وبعض الفقهاء المتهافتين على باب السلطان أدواراً في ترويج مبدأ "كما تكونون يولى عليكم"، ما يعني، في نهاية المطاف، تحميل الرعية مسؤولية فساد الحاكم، في مقابل تبرئة هذا الأخير بجعله ابتلاء من الله، والتسليم به قضاء منه وقدرا، وبدل أن يكون السياسي مسؤولاً عن الفساد الأخلاقي، يصبح فساد الأول نتيجة الثاني.

مبكراً، أدرك عثمان بن عفان دور السلطة وفعالية السياسي، ولمس علي بن أبي طالب رابطا بين أخلاق الحاكم وأخلاق الرعية، فتوجه إلى عمر بن الخطاب بقوله: "عففت فعفّت الرعية يا عمر، ولو رتعت لرتعوا"، لكن استمرار الصلاح في ظل غياب آليات الإصلاح المستمر الذي تكفله عملية المأسسة، لم يضمنه نموذج "المستبد العادل" أو "المستبد المستنير".

ومع أن الأخلاق والسياسة مجالان منفصلان، ينتمي الأول إلى ما ينبغي أن يكون، ويتعلق الثاني بما هو كائن، فإن سيادة القانون في ظل نظام سياسي يضمن العدل الاجتماعي، يتيح سيادة النظام الأخلاقي المنشود. وهنا، يعلن برتراند رسل أن "السلطة مبدأ كل فضيلة". فليست الأخلاق هي التي تنجب الحق، بل الحق هو الذي ينجب الأخلاق. في المقابل، وحين تغيب دولة الحق والقانون، يهيمن الاستبداد، فيصبح العنف مصدرا لكل فساد أخلاقي ممكن. وإذا كان الثعالبي قد أدرك أهمية المروءة في كتابه "مرآة المروءات"، من حيث كونها "اسماً واقعاً على محاسن جمّة، من مكارم الأخلاق، وممادح الأوصاف"، فقد سخر طه حسين من ندرتها، فدعا إلى مدرسة تعلّمها بإشراف الجهات الرسمية. لكن، يبقى السؤال: ما هي مسؤولية تلك الجهات عن الفساد الخلقي، أو غياب المروءة؟

حين تحتكر السلطة العنف، فإنها تمارس وظيفتها الطبيعية في حفظ الأمن والاستقرار، فتتصرف كدولة مجردة تمثل الحق العام والإرادة العامة. لكن، في الأنظمة الاستبدادية وتلك الشمولية، يُمارَس العنف من دون ضوابط، فيغدو شططا في استعمال غير قانوني للقوة، ليؤول قهراً يتأتى من فقدان السلطة شرعيتها، ما يدفعها إلى الخروج عن وظيفتها المتمثلة في تدبير الصراع، لتصبح هي نفسها تهديداً للسلم الأهلي. ففي النظم الاستبدادية، تتحقق وحدة العنف والسلطة، لتتحول القوة غير المنظمة إلى عنف في ظل غياب الأيديولوجيا التي تحل محلها إرادة المستبد الخيرة والشريرة، فتوجَّه السلطة من العنف الباطني للمستبد. أما في الأنظمة الشمولية، يتم استبدال العنف بالسلطة ويهيمن الأيديولوجي على الثقافي، ليقوّض العنف الممارسة السياسية، لتبقى ممارسة ضبابية.

ولمّا كانت الثقافة سمة الإنسان المعاصر، فإن العنف لا يبقى مجرد غريزة، بل يتحول إلى ثقافةٍ، تكون لها الكلمة العليا في المجتمع، تتحكم بالأفعال وردودها. إذ يمتاز العنف بقابليته للانتقال، عمودياً وأفقيا. عمودياً: من قمة الهرم إلى قاعدته، فكما يتسلط الحاكم يتسلط رب العمل، ورب الأسرة، والمعلم...إلخ، وأفقيا: تتوارثه الأجيال، حين لا يستطيع الطفل تمثل العنف الأسري في مواجهة الوالدين، فيمارسه لاحقاً على الأسرة التي يكونها بدوره، لتصبح الأسرة وسيلة لإعادة إنتاج ثقافة العنف.

في مجتمعاتنا العربية، من حيث هي مجتمعات تأسست على العنف، وطالما كان في وسع بعضهم خرق القانون، لقدرته على احتكار كم من العنف، سيغيب احترام القانون لصالح الخوف منه، إذ يخشى من لا يملك القدرة على احتكار العنف من عنف مضاد، فيكون التزامه بالقانون خوفاً من تبعات تجاوزه، وليس احتراما له. وهنا، يظهر الرياء الاجتماعي بأوسع معانيه. بينما يؤدي سعي الإنسان إلى تحقيق الذات، بما يخالف القانون، إلى أحد أهم أنواع الفساد الذي يسميه اسبينوزا: "عبودية النفس"، حين يعجز عن التحكم في انفعالاته وغرائزه. وحيث لا ينتج قهر التقاليد والأسرة والقهر الاقتصادي والسياسي إلا شخصية عير متوازنة في مواجهة حقائق الحياة والوجود، تكون النتيجة انكفاء على الذات، لتبرز ماضوية تعويضية تغيّب سؤال المستقبل لصالح وهم أمجاد الماضي الشخصي والعام، وتوجِه الذات عدوانيتها إلى الخارج تعصبا وتطرفاً.

وفي ظل مجتمعات وبيئات كهذه، تقوم على العقائد لا القيم، وعلى العادات والتقاليد لا الأخلاق، وعلى الخلاص الفردي لا الجماعي، ويصبح حتى التديّن شعائر وطقوساً أكثر من كونه وقاراً روحياً، يسود الخوف والقلق، فتتعطل الطاقات والقدرة على الإبداع، وتنعدم الثقة بالنفس وبالآخرين، وليس أدل على ذلك من توظيف كل عبارات القسم في الأحاديث اليومية، من دون أن يكون ذلك مبرراً كضرورة. وفي ظل فساد نظام الحكم، ليس مستغرباً أن يطال الفساد قوى المعارضة السياسية، لتكون نسخة معكوسة منه، بل ربما أكثر تشوهاً، تشاركه ممارساتٌ كثيرة، قامت أساسا ضدها، ليدور المجتمع في حلقة مفرغة يصعب كسرها، أو يتطلب ذلك أثماناً باهظة يدفعها المجتمع.

أدرك ابن خلدون خطر الاستبداد والعنف، والقهر الناتج عنهما، حين ذهب في مقدمته إلى أن "من كان مرباه بالعسف والقهر، من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي عليه، وعلّمه المكر والخديعة. لذلك، صارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له، من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحَمِّية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيّالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل سافلين".

إن صلاح النظام السياسي هو الركيزة الأساسية في صلاح النظام الأخلاقي. ومهما قيل عن مساوئ الديمقراطية، يكفل النظام الديمقراطي أن يبقى الفساد الأخلاقي، السلوكي والإداري والمالي والوظيفي..إلخ، سمة فردية، ويحول دون تحوله إلى ظاهرة اجتماعية. كما يكفل وضوح القوانين وسيادتها، كشف تلك الممارسات ومحاسبتها وإخراجها من حيز التوظيف السياسي. بات الانقلاب على الموروث التقليدي "كما تكونون يولى عليكم" نقطة انطلاق مطلوبة في فضاء التغيير والإصلاح السياسي، إذ الصحيح أن نقول: "تكونون كما يولّى عليكم".

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.