عن المصالحات الوطنية في سورية

عن المصالحات الوطنية في سورية

15 مارس 2015
+ الخط -

شاركت في ورشة عمل نظمها مركز القدس للدراسات السياسية، بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية، في بيروت يومي 7و8 مارس/آذار الجاري، عنوانها (فرص التوافق في سورية من المصالحات الوطنية إلى مبادرة دي ميستورا)، وشارك فيها حوالي أربعين شخصية سورية قيادية وفكرية فاعلة ومنفتحة على الحوار، وللأسف كان الحضور النسائي قليلاً. وأبدع، مثلاً سمير العيطة في تشخيص الحالة السورية وتحليل الاحتمالات الممكنة للمصالحة الوطنية. وأبهر بشير السعدي، رئيس المنظمة الآشورية في القامشلي، الحضور بعلمه وثقافته ورؤيته لإمكانية المصالحة الوطنية. وأدار المدير العام لمركز القدس للدراسات السياسية، عريب الرنتاوي، ببراعة ورشة العمل التي شهدت مداخلات عميقة، وشخصت أمراض المعارضة والنظام. وكان الجو العام بين المشاركين ودياً بامتياز، مع تباين وجهات النظر واختلافها. وكان المشاركون، على الرغم من الاختلافات الكبيرة في آرائهم، يشعرون أنهم في مركب واحد، هو وطن اسمه سورية، المهددة بالغرق في دماء أبنائها. والكل كان يشعر أن الزمن السوري من دم، وأن الوضع السوري خطير جداً، وبأن مأساة الشعب السوري تفوق الوصف وتتطلب وضع كل الخلافات جانباً، لإيجاد توافق على حل
سريع لوقف القتل، ولتوحيد المعارضات المتشرذمة. وكان الكل يشعر بالخطر على المسيحيين والأكراد والآشوريين والعلويين والسُنة. لا توجد طائفة في سورية إلا وتضررت ضرراً فظيعاً، لا يوجد بيت إلا وقُتل أحد أبنائه، سواء كان من الجيش النظامي أم من الجيش الحر، أو من ضحايا الصراع الدامي بين الفصائل المتطرفة والنظام. والكل كان يشعر بالألم الذي يحاول إخفاءه، لأن هذه الندوات والمؤتمرات الخاصة بالأزمة السورية لا تُقام على الأرض السورية، بل في موسكو أو جنيف أو القاهرة أو بيروت إلخ.

وقد شعر كل سوري مشارك في ورشة العمل، وعنوانها العريض "المصالحات الوطنية"، بألم كثير، حين علمنا أن مؤتمراً سيُعقد في القاهرة، في إبريل/نيسان المقبل، وبرعاية من الحكومة المصرية، بين شخصيات من النظام وأخرى من المعارضة. إلى متى سنترك الدول الصديقة وغير الصديقة تتدخل في بيتنا الذي يحترق بنار الحقد، إلى متى سنترك السؤال الأبدي عمن بدأ بالحريق، بدل أن يسعى الجميع إلى إطفاء الحريق أولاً، ثم المساءلة والمحاسبة؟ أي إحساس بالخزي والخجل، حين ينتهي المؤتمر بطرح سؤال من نوع: هل ستسمح القاهرة بأن يشارك ممثلون عن الإخوان المسلمين في المؤتمر الذي ستستضيفه بهدف المصالحة الوطنية؟ ألا يعني هذا أننا، كسوريين، نحتاج أوصياء وراعين، كما لو أننا قاصرون عن اتخاذ قرارات مستقلة، بدون رعاية إقليمية عربية أو غير عربية؟

والأهم، أي معنى للمصالحة الوطنية، ومثقف سوري وطني معروف بموقفه الأخلاقي، هو سمير العيطة مُقدم لمحكمة الإرهاب في سورية؟ كيف سيجلس وفد من النظام مع العيطة، المعارض الوطني، وثمة يافطة يلصقها على صدره النظام السوري بأنه يجب أن يُحاكم بتهمة الإرهاب؟ ولماذا لا يتمكن عالم وباحث آشوري، له شهرة عالمية يقيم في القامشلي، مثل بشير السعدي من الحضور إلى اللاذقية، لأن كدسة تقارير أمنية مكتوبه ضده؟ أليس من البديهي أن جوهر الإصلاح يبدأ من فك قبضة الأمن والاعتقال عن الناشطين السلميين الذين يهبون حياتهم ووقتهم وعلمهم للشعب السوري المخذول في محنته؟ أليس جوهر الإصلاح والمصالحة الوطنية أن يتمكن بشير السعدي من إلقاء محاضرات عن الحضارة الآشورية العظيمة في المركز الثقافي الفخم في اللاذقية، والذي يستضيف، إلى الآن، محاضرات من نوع كيف نقول لا لأميركا، حضورها من نسيج واحد، هم المطبلون والمصفقون، وهم أنفسهم لا يصدقون أنفسهم، بل الكل يكذب على الكل، وتستمر حياة الذل.

قبل الحديث عن إمكانية المصالحة الوطنية، يجب إعادة ثقة الشعب السوري، أولاً، بالأجهزة الأمنية، أي ألا ترتعد فرائص الناس ذعراً لدى ذكر كلمة أمن، ففيما هي من الأمان، لها مفعول عكسي في سورية، هو الاعتقال. ويكفي أن أذكر حادثة مؤلمة وتثير الضحك في الوقت نفسه، فحين نُشرت مقالتي في صحيفة الحياة (صبحية في فرع أمن الدولة)، نصحني أصدقاء كثيرون بألا أسافر إلى بيروت لحضور ورشة العمل، وقالوا لي إنني "عليت السقف هذه المرة"، فشعرت أننا نعيش حياتنا ورأسنا ملتصق بسقف من الرصاص وليس الباطون. وقد زارتني صديقة من حلب، وشربنا القهوة، وأحسست بالشكر لوجودها إلى جانبي، تحاول طمأنتي أنني سأسافر وأرجع بالسلامة، وبأن مقالي ليس خطيراً، ووجدتني أكتب بعفوية على صفحتي على "فيسبوك" (القهوة مع صديقتي إياها لها طعم الحنان)، فما كان منها إلا أن أصاب ملامح وجهها الذعر، وطلبت مني الإسراع بمحو العبارة، وقالت لي بعفوية: هل أنت مجنونة حتى تكتبي هكذا تعليق في اليوم الذي نشرت فيه مقالتك عن الأمن! أذهلني الرعب في قلبها، أذهلني إحساسها أنها التي لم ترتكب أي ذنب، ولم تتخذ أي موقف معارض للنظام، بل هي موالية تماماً، تشعر أنها مُتهمة ومذنبة، وبأن أجهزة الأمن
أو المخابرات يمكن أن تستدعيها بتهمة شرب فنجان قهوة مع كاتبة نشرت مقالاً عن في فرع أمن الدولة. تمثل تلك الصديقة الحبيبة شريحة كبيرة من الشعب السوري المُروع من المخابرات، والذي يشعر أنه حتى لو عاش أصم وأعمى وأبكم، لا قدر الله، فإن تهمة ما قد تسقط على رأسه، كما تسقط نقطة ماء من مكيف على رأس مواطن يسير في الشارع.

علاج الخلل يجب أن يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، وعلى الرغم من أنني لا أعتبر نفسي كاتبة سياسية، بل مواطنة سورية، أعبر عن ضمير شعب عظيم، صبر كثيرا وتحمل ما لا تحتمله الجبال، فإن أي حديث عن مصالحة وطنية وشعارات طنانة تريح الأعصاب راحة خُلبية يجب أن يبدأ من استئصال جذور الخوف من قلب المواطن السوري، وإعادة الثقة بين المواطن والأجهزة الأمنية، وألا يضطر كل شخص سوف يغادر سورية إلى أن يسأل في قسم الهجرة والجوازات عن اسمه، ما إذا كان ممنوعاً من السفر، لتهمة ما (كما لو أنه مطلوب كل يوم أن يقدم براءة ذمة أنه مواطن صالح).

لا معنى لكل تلك المؤتمرات الكثيرة، وفي أفخم الفنادق، إن لم تبدأ، أولاً، بالعناية بروح المواطن السوري المعذبة والمشوهة بالخوف والذل. وأخيراً، كلي أمل، مثل ملايين السوريين إخوتي في المعاناة، أن تُعقد المؤتمرات التي تخص الشعب السوري في دمشق أو حلب أو اللاذقية أو حتى في كسب. هل ما نتمناه معجزة؟

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية