مكتب الرئاسة الأميركي يفقد هيبته

مكتب الرئاسة الأميركي يفقد هيبته

13 مارس 2015

أوباما يواجه مستوى غير مسبوق من قلة الاحترام (مارس/2015/Getty)

+ الخط -
استناداً إلى آراء خبراء ومؤرخين سياسيين أميركيين، فإن التاريخ السياسي الأميركي الحديث لم يعرف رئاسة تعرضت للتشكيك في شرعيتها، كرئاسة باراك أوباما. بل إن رئيساً أميركياً، على الأقل في التاريخ المعاصر، لم يتعرض إلى هذا المستوى من قلة الاحترام من حزب المعارضة، وهو الحزب الجمهوري في هذه الحالة.
مناسبة هذه المقدمة مرتبطة بالرسالة التي بعثها 47 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأميركي إلى قادة إيران، يوم الإثنين الماضي، والتي تحذرهم من أن أي اتفاق نووي مع إدارة أوباما قد لا يستمر بعد خروجه من الرئاسة، مطلع عام 2017. وقال هؤلاء الأعضاء، في رسالتهم، إن أي اتفاق لا يقره الكونغرس سيكون مجرد "اتفاق إجرائي"، بمعنى أنه قرار تنفيذي، يمكن للكونغرس، أو أي رئيس قادم، أن يبطله.
وتعد هذه الرسالة سابقة نادرة الوقوع في الأعراف السياسية الأميركية، وتعدياً فاضحاً على صلاحيات الرئاسة، في مجال السياسة الخارجية، وتجاوزاً مخلاً بحق الاحترام المفترض لمكتب الرئاسة. ولم تكن هذه الرسالة الإهانة الأولى التي يوجهها الجمهوريون لأوباما، في بحر أسبوع واحد. فهي قد جاءت بعد دعوتهم لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مطلع الشهر الجاري، ليخاطب الكونغرس حول ملف المفاوضات مع إيران، من دون إعلام البيت الأبيض مسبقاً. غير أن قلة الاحترام الأخيرة هذه بحق أوباما ليست الأولى من نوعها، ولها سوابق كثيرة، وهي مرتبطة، إلى حد كبير، بخلفية عنصرية.
الرئيس أوباما أول رئيس أسود في تاريخ بلد مارست الأغلبية البيضاء فيه العبودية والتمييز العنصري بحق الأفارقة السود، منذ استقلاله في منتصف القرن الثامن عشر، وإلى قرنين تاليين. بل إن الولايات المتحدة شهدت حرباً أهلية بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية (1861-1865)، تحت رئاسة أبراهام لينكولن، على خلفية العبودية التي أراد لينكولن إلغاءها. وهي الحرب التي خلفت أكثر من مليون قتيل أميركي، شكلوا ما نسبته 3% من مجموع السكان حينها. ولم تنه الولايات المتحدة، دستورياً وقانونياً، سجلها المقيت في العنصرية والتمييز العرقي، إلا في ستينيات القرن الماضي، عبر جملة تشريعات تعزز الحريات المدنية، وحق التصويت، وحق المساواة في السكن.
لم يعن ذلك نهاية العنصرية في الولايات المتحدة واقعاً. فلا زالت مظاهر التمييز العنصري حاضرة بقوة، إلى اليوم، بحق السود. فمثلاً، وحسب مكتب العدل الأميركي للإحصاء، شكل السود في عام 2009 ما نسبته 39.4% من العدد الكلي للسجناء، على الرغم من أن نسبتهم في المجتمع الأميركي لا تتعدى 13.6%. أيضاً، فإنه، واستناداً إلى معطيات مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف. بي. آي) عام 2012، تقتل الشرطة على الأقل 400 شخص سنوياً، أكثر من ربعهم سود يقتلون على أيدي رجال شرطة بيض. وحسب المعطيات نفسها، أكثر من 18% من هؤلاء الضحايا تحت سن الواحدة والعشرين، مقارنة بـ8.7% من البيض فقط.. إلخ.
ضمن هذه الأجواء العنصرية المشحونة، جاء أوباما إلى الرئاسة مطلع عام 2009، غير أن وضعه أكثر تعقيداً من كل ما سبق. فهو، أولاً، ابن مهاجر كيني مسلم اسمه حسين، ونشأ، في سنوات طفولته المبكرة في ماليزيا، في ظل زوج أم مسلم ماليزي. ثمّ إنه كان، خلال ترشحه للرئاسة عام 2008، ناقداً لسياسات كثيرة لإدارة سلفه جورج بوش. فهو عارض غزو
 العراق، وعارض معتقل غوانتنامو، وتحفظ على "الحرب على الإرهاب"، ودعا إلى قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيلية. أبعد من ذلك، استثار أوباما، أيضاً، غير مرة، ولا زال، اليمينيين الأميركيين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحديثه عن أخطاء أميركا التاريخية، أو في دفاعه عن الإسلام ورفض ربطه بالتطرف، كما فعل مطلع الشهر الماضي.
دفع ذلك كله اليمينيين المتشددين إلى شن حملة شعواء على الرجل، تتهمه بأنه مسلم متخف، مستغلين الأجواء المسمومة ضد الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة. وتظهر استطلاعات الرأي أنهم حققوا نجاحاً لا ينكر في حملتهم، إذ يقتنع واحد من كل خمسة أميركيين بأن أوباما مسلم. أبعد من ذلك، وعلى الرغم من أنه قضى إلى اليوم أكثر من ست سنوات رئيساً، فإن 19% من الأميركيين يؤمنون بأن أوباما لا يحمل الجنسية الأميركية، وقُدِّمَتْ عشرات القضايا في المحاكم تطالبه بإثبات جنسيته، وإظهار شهادة ميلاده. بل إن جنوداً أميركيين رفضوا الذهاب إلى ساحات القتال، بذريعة أن أوباما لا يملك الصلاحية الدستورية لإرسالهم إليها، ذلك أنه رئيس غير شرعي، حسب زعمهم، على أساس أنه ليس مواطناً أميركياً.
وبسبب نقاط الضعف هذه لدى أوباما، لم يتورع الجمهوريون، أبداً، عن التطاول على الرجل مرة بعد أخرى. فهو قد يكون أول رئيس أميركي يُقاطَعُ خلال إلقائه خطاب "حالة الاتحاد" من عضو كونغرس من حزب المعارضة، وينعته بـ"الكاذب". حدث ذلك مطلع عام 2009 في الكونغرس. وفي خطاب العام التالي، كسر أحد أعضاء المحكمة العليا الأعراف الراسخة  بحيادية القضاة، عندما سُمِعَ وهو يهمس خلال خطاب أوباما بالقول: "غير صحيح". وفي منتصف الشهر الماضي، اتهم عمدة نيويورك السابق، الجمهوري رودي جولياني، أوباما، بأنه لا يحب أميركا وبأن "أسلوب نشأته" غير "أسلوب نشأتنا". كما كشفت تحقيقات لوزارة العدل الأميركية، أخيراً، حول العنصرية المتفشية في شرطة مقاطعة فيرغيسون في ولاية ميزوري عن عشرات من البريد الإلكتروني المتبادل بين أعضاء الشرطة يتطاولون فيها بأسلوب عنصري على أوباما وزوجته، وصلت إلى حد وصف أوباما بقرد "الشمبانزي".
يدرك أوباما ذلك كله، وهو يعلم أن الجمهوريين يوظفون هذه الخلفية ضمنياً، في محاولة لإضعاف رئاسته، وتبديد إرثها. بل كان أوباما قد علق متهكماً في يوليو/تموز عام 2009 بأن الأمن الرئاسي قد يطلق الرصاص عليه هو نفسه، لو أنه حاول أن يدخل البيت الأبيض عنوة. كان أوباما حينها يعلق على اعتقال أستاذ جامعي أسود، وصديق له، أمام منزله الراقي في مدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس، ذلك أن الشرطة شكّت بأنه لص.
بكلمة، لا شك في أنّ تحدي الجمهوريين لأوباما وإظهارهم قلة الاحترام لمكتب الرئاسة، بغض النظر عن شاغله، يذهب إلى أبعد من لون الرئيس وعرقه، غير أن درجة الصلافة التي يبدونها في تعاملهم مع رئيس منتخب للبلد، لا يمكن أن تؤخذ بمعزل عن تلك الخلفية.