نظرة معاذ الذاهلة

نظرة معاذ الذاهلة

06 فبراير 2015
+ الخط -
ليس مفاجئاً إعدام تنظيم الدولة الإرهابي الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، فليس متوقعاً سوى الإجرام الوحشي، المُستند إلى الكراهية والأحقاد والقسوة التي لا حدود لها لهذا التنظيم الإرهابي، لكن النظرة التي كان معاذ يمسح فيها المكان، ويرنو إلى السماء، تجعلك تشعر بطعنة ألم هائلة في قلبك، من بين المشاهد المؤلمة، حيث يقف الطيار أعزل وسط وحوش بشرية ملثمة تحمل البواريد. لا تبقى في ذهنك سوى تلك النظرة الذاهلة، وكأن معاذ يمسح المكان الموحش الصحراوي، بنظرته الحزينة الخائبة، ويتمنى حصول معجزة ما تنقذه من هؤلاء الوحوش. حزن لا نهائي وكثيف يطل من عيني معاذ، حزن شاب عارف بموته، لا وقت لديه ليستعيد ذكريات شبابه، ولا ليزن هول أحزان أهله عليه. نظرة من عجز عقله عن إدراك سبب كل تلك الوحشية من شبان هم في عمره. الأجدر بهم أن يعتنوا به ويكرموه، وهو التائه في تصحر المشاعر البشرية. لكن كرم داعش هو في سفك الدماء، والذبح أو الحرق أو تنويعات الحقد الأسود في قلوبهم المتحجرة.
تساءلت، لماذا زلزلتني نظرة الطيار الأردني الشاب إلى هذا الحد؟ لم أحتج إلى التفكير حتى أدرك أنه كان مرآة روحي، وأن نظرته نظرة كل إنسان سوري تحديداً، وعربي أيضاً. لكنني، المتيمة بسورية، رأيت نظرة معاذ في عيني أطفال الحولة الذين تراصّت أجسادهم البضة، المذبوحة بجانب بعضها، وقد أطلت النظرة الذاهلة ذاتها (نظرة معاذ) من عيونهم، نظرة
الطيار الأردني الذاهلة، واقفاً وسط جلاديه، هي نفسها نظرة السوريين الفارين من القصف الصاروخي وسقوط البراميل المتفجرة عليهم، وهم يحملون أطفالهم مشاريع جثث، حين يشعر الإنسان بأنه، في كل لحظة، قد يتحول إلى جثة، وبأن الموت مختبئ بين ثانية وثانية، وقد ينقضّ عليه في أي لحظة، حسب مزاج السياسيين وصُناع الحروب. تصبح قدرته على التفكير والاستيعاب مشلولة، ويتحول فيض الألم وكثافته إلى ذهول. نحن السوريين تحول ألمنا الذي لا حدود له من هول ما عشناه، طوال أربع سنوات، وطوال عقود سبقتها من الإذلال والقهر والخوف، تحول ألمنا إلى ذهول، وصارت نظرتنا كنظرة معاذ وهو مدرك لمصيره ومُودعاً الحياة. نظرة إنسان خذلته الحياة، وخاب أمله بوطنه وحكامه الذين يفترض أنهم يحمونه ويحمون الشعب، لكن الشعوب في عالمنا العربي مجرد وقود لحروب الآخرين، ومصالح الدول العظمى. الشعوب في عالمنا العربي أشبه بأضاحي العيد، لا أحد يؤنبه ضميره على المجازر المُروعة التي تُرتكب في سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها، فليمت الآلاف، بل الملايين. لا مشكلة، وبعد كل مجزرة وحشية، على الجميع أن ينصت بخشوع، لتصريح البيت الأبيض المُلطخة جدرانه بالدماء من دماء الهنود الحمر، إلى دماء الفيتناميين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين إلخ. البيت الأبيض ورئيسه أوباما حاكم العالم هو المهم، أي اشمئزاز نشعر به، حين يكون التعليق الأول، بعد الجريمة الوحشية لقتل معاذ الكساسبة حرقاً وهو حي، بأن أوباما يستنكر العمل، ويؤكد لنا وحشية تنظيم الدولة. كما لو أننا قاصرون، ونحتاج من المعلم الأكبر، أوباما، أن يُملي علينا ما يجب أن نحسه ونكتشفه ونقوله كببغاوات. وبدل أن تكون الكلمة الأولى التي تذيعها الفضائيات للملك الأردني يرثي أحد أبنائه، فإن الكلمة الأولى التي بثتها معظم الفضائيات هي لأوباما.
ما أن تبدأ الشعوب العربية بالتململ من القهر والذل والظلم، وتنتفض ثائرة، حتى ينقض عليها الحكام المدعومون بالدول العظمى في الإجرام بالمجازر والاعتقالات والتشريد، ومن تبقى على قيد الحياة يعيش نازفاً الدمع في المقابر الجماعية أو مُحتضناً صور أولاده حين لا يستلم جثثهم، كأن يموتوا في المُعتقلات، ولا يُسلم الأهل الجثة، أو يموتوا على أيدي الإرهابيين. الحرية في عالمنا العربي هي حرية اختيار شكل الموت، هل تريد أن تموت في المُعتقل، أم في ساحة الوغى، كجندي زُج بك في معركة لا يريدها؟ الحرية في عالمنا العربي حرية الموت، والثقافة هي ثقافة الموت، حيث يتهافت شبان في عمر البراعم للموت من أجل الحصول على النعيم في الجنة، لو تمكن كل شاب من الحب على الأرض، ومن الزواج من حبيبته، لما حلم بحوريات الجنة.
هول الألم يؤدي إلى الذهول، إذ لا يعود العقل قادراً على استيعاب كل هذا الكم من الحزن والظلم. الذهول الذي أطل من عيني معاذ الكساسبة هو الذهول نفسه، يطل من عيون السوريين، ومن عيون كل مواطن عربي.


831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية