خرائط وهويات وفيدرالية

خرائط وهويات وفيدرالية

28 فبراير 2015
+ الخط -
نشرت بعض الأوساط الكردية، أخيراً، خريطة لشمال سورية، مشفوعة بدعوة إلى تأليف مرجعية سياسية للأكراد. وارتفع الكلام بعد ذلك على "الحكم الذاتي" للأكراد في نطاق الدولة الاتحادية السورية المقبلة. ولا شك أن هذه الأفكار والرؤى تثير أسئلة ريبية. ومن بينها السؤال التالي: لماذا ينهمر رسم الخرائط، وتتزاحم حمى إعادة تفصيل الأوطان، وتقطيع أوصال الشعوب، على العرب وحدهم في هذه الأيام؟ فلا أحد يعرض فكرة الدولة الاتحادية (الفيدرالية) على تركيا مثلاً، مع أن الصراعات الدموية لم تنقطع فيها منذ مجازر السريان والأشوريين والأرمن واليونان حتى المجازر ضد الأكراد في الأناضول؟ ولماذا لا تعرض هذه الحلول على إيران، علماً أن المجازر في الأحواز (خوزستان)، والاضطهاد الذي يحوق بالسُنّة والبهائيين، لم تتوقف منذ العهد البهلوي إلى الزمن الإسلامي؟
خرائط تُرسم، ويعاد رسمُها مرات ومرات. وفي أثناء ذلك، يتم تقطيع الجغرافيا، وتتباعد العناصر التكوينية للشعوب، وينفصل بعضها عن بعض، وتجري الدماء في الفيافي والهضاب بغزارة. والخرائط الأخيرة المرصودة لسورية مكتوبة، كما يبدو، بـِ "أقلام الرصاص" الأميركية، أو بمداد شوفيني مع الأسف، إذ حفلت النصوص المرافقة لهذه الخرائط بعبارات منفِّرة للعرب، مثل "قامشلو"، أي مدينة القامشلي التي لم يطأها الأكراد قبل سنة 1926، بعدما لجأوا إليها هاربين من تركيا.
الفيدرالية هي العنوان المقبل في المنطقة العربية، كما يلوح لي. ليبيا يُراد بها أن تكون دولة اتحادية (برقة وفزان وطرابلس)، ولا مخرج من الحرب الأهلية المندلعة فيها إلا بهذا الحل. هكذا يروِّج الحلف الأطلسي، المقاول الذي تولى إسقاط نظام معمر القذافي. والعراق دولة اتحادية (سُنّة وشيعة وأكراد)، منذ أن أنهى الخياط بول بريمر فتق العراق ثم رتقه. واليمن دولة اتحادية. والمغرب مملكة متحدة كرمى لعيون الصحراويين، فضلاً عن الأمازيغ. لكن العمى السياسي ما برح يسدل ستائره على العيون والعقول معاً؛ فالحل الفيدرالي في العراق فشل فشلاً ذريعاً، وها هي الحرب الأهلية مستعرة كنيران جهنم. وفَشِل الحل الفيدرالي في السودان، فانفصل الجنوب بعملية قيصرية، وليس من المؤكد أن يعيش المولود الجديد بعافية وهناء. وحتى لو كانت الفيدرالية فكرة محبَّذة في السودان اليوم، فلن تُطبَّق إلا على السودان الشمالي وحده (الخرطوم ودارفور وكردفان والنوبة والبُجا والجنجاويد وغيرها)، ولا نعلم، على وجه اليقين، لماذا لا يعرض أحد الفيدرالية على إسرائيل، بحيث يتمتع الفلسطينيون بحكم ذاتي، في إطار دولة واحدة؟ غير أن بعضهم تجرأ على التفكير في صوغ مشروع للفيدرالية في فلسطين، تضم قطاع غزة والضفة الغربية. وهذا عرض مريب؛ إذ كيف يمكن تأسيس فيدرالية ذات جناحين منفصلين جغرافياً: الأول تديره مصر (قطاع غزة)، والثاني تديره الأردن (الضفة الغربية)؟
لن ينجح أي حل لسورية المقبلة على الإطلاق، إذا لم يجرِ تأسيسه على عقد اجتماعي جديد. عقد يقوم على الدولة الواحدة الديمقراطية؛ دولة لجميع مواطنيها الأحرار والمتساوين؛ دولة عَلمانية من بابها إلى محرابها، تحترم الهويات القومية لجميع مكوناتها، وتحترم هذه المكونات، بدورها، وحدة التراب السوري، وثقافة الأغلبية القومية، ولغتها وتاريخها وحضارتها... وإلا فالمزيد من الحروب الأهلية. وأكثر ما يُخشى منه أن يُخدع الأكراد وغيرهم بالوعود الدولية الجديدة، أو أن تتغلب روح الانتهازية السياسية عليهم، فيعتقد بعضهم أن الأوان قد حان لاقتناص ما يمكن اقتناصه من العرب المهزومين. لنتذكّر معاهدة سيفر، وكيف نقض الأوروبيون وعودهم للأكراد، ووقّعوا معاهدة لوزان مع أتاتورك. ومن غير المستبعد، اليوم، عقد صفقة مع تركيا على حساب الأكراد، ما يعيد إلى الذاكرة معاهدة لوزان القديمة. فالويل إذاً للعرب والكرد معاً.