أولوية العلمانية والحداثة على الإصلاح الديني

أولوية العلمانية والحداثة على الإصلاح الديني

24 فبراير 2015

تظاهرة تطالب بقوانين مدنية علمانية في لبنان (2009/أ.ف.ب)

+ الخط -

رأى كارل ماركس أن محمد علي (1811-1849) الرجل الوحيد الأقدر على "أن يستبدل العمامة المفتخرة برأس حقيقي"، لكن مشروع محمد علي الحداثوي بقي من دون تحقيق ما أنجزته الكمالية في تركيا. وإن كان محمد علي قد سعى، عبر تهميش علماء الدين وتجريدهم سلطتهم، إلى القضاء على التحالف التقليدي بين هؤلاء والنخب الحاكمة، إلا أنه فرض العلمانية سياسياً، من دون أن يكون لها بعد، أي سند أيديولوجي. أما التحديث، فلم يوضع في سياق الاحتياجات الداخلية للمجتمع، والمتأتية من منطق تطوره الداخلي، فبدا في مصر مجتمعان: الأول محدث يتألف من العسكريين والإداريين والمثقفين، وآخر مؤلف من جماهير غفيرة، محافظ، ويسير وفق منطقه الخاص.

أدرك رفاعة الطهطاوي، في حينه، أحد جوانب القصور، فعلى الرغم من اعترافه بدور محمد علي في إعلاء "منار الوطن ورقيه"، رأى أنه لم يستطع "أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة في الجامع الأزهر، ولم يجذب طلابه إلى تكميل علومهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر". مع ذلك، لم تشكل كل من العلمانية والحداثة، بالنسبة لرجال الدين في حينه، خطراً أيديولوجياً، أو تحدياً فكرياً، بل مجرد إجراءات قوّضت سلطتهم. وعلى الرغم من تحفظه على مكانة الدين عند الأوروبيين، امتدح الطهطاوي ظواهر المدنية والروح الغربية الحديثة، ودعا إلى تكييف الشريعة مع الحداثة، مع سلفيةٍ تمثلت في تسويغ استرداد المسلمين بضاعتهم العلمية التي أخذها الغرب عن مسلمي الأندلس.

كان للمدارس التبشيرية في بلاد الشام دور مهم في إطلاع المسيحيين العرب على الثقافة الغربية الحديثة، ليتوافد هؤلاء منذ عام 1870 على مصر، مؤسسين صحفاً نادت بالعلمانية، وحوت مقالاتها موضوعات في العلوم المدنية، والفلسفة والاجتماع. فدعا شبلي الشميّل إلى الفصل بين الدين والعلم، وضرورة تطبيق النظام الاشتراكي، مع الحفاظ على مكتسبات الفكر الليبرالي الضامن لحقوق الأفراد والمقيد لمهام مؤسسات الدولة. ورأى فرح أنطون أن أي دين يدعي الحقيقة لنفسه، ويطلب من الناس سلوك سبيله لبلوغ الخلاص، فإذا ما حازت السلطات الدينية سلطة سياسية، كان من الطبيعي أن تضطهد الذين يخالفونها. فعلى عقلاء الأمة، وضع الدين جانباً في "مكان مقدس محترم" شرطاً للحداثة.


توفيق بين الإسلام والحداثة
بدت الحداثة قدراً محتوماً لم يعد ممكناً تجنبها، وطرح الفكر الإصلاحي قضية التوفيق بين الإسلام والحداثة. لكن المعضلة كانت: كيف يمكن أن يصبح المسلمون جزءاً من العالم الحديث، طالما فرضت عليهم الحداثة، بكل الأحوال، مع الحفاظ على تراثهم؟ كان جمال الدين الأفغاني أكثر إدراكاً لأطماع الغرب الاستعمارية، فمع إقراره بقدرة الإسلام على مواكبة الحداثة، تمسك بنزعة دفاعية، رأت أن الإسلام دين ودنيا، وأنه ينبغي للدين الإسلامي أن يعبّر عن نفسه في ميدان العمل، فعلى المسلمين الخروج من مساجدهم، لينخرطوا في العمل السياسي. هنا يتحول الدين إلى أيديولوجيا في مواجهة الغرب. لكن، بعد فشل تلك الجولة من المواجهة، يضع محمد عبده خطة لمراجعة الشريعة الإسلامية، لتلبي شروط الحداثة، ومؤكداً على الطبيعة الدينية للسلطة السياسية، يعلن أن "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين". وفي مواجهة التدين التقليدي، ممثلاً في الأزهر، يمكّنه منصبه مفتياً للديار المصرية، منذ عام 1899، من توفير صيغ عملية، ليتمكن المسلمون من ممارسة دينهم بشكل يتوافق مع روح الحداثة، عبر فتاوى عديدة (إباحة إيداع الأموال في صناديق التوفير وأخذ الفائدة عليها، وحليّة ذبائح المسيحيّين، وغيرها). لكن رفض محمد عبده التقليد (قبول كل شيء دون مناقشة) سيتحول مع رشيد رضا عودة إلى السلف، لتبدأ أفكار "المجدد"، أبو حامد الغزالي، تغزو صفحات مجلة رضا "المنار"، وليحل محلها أفكار "مجدد" آخر، هو ابن تيمية.

حتى هذه اللحظة، لم تكن لدى المسلمين أي حركة أصولية جماهيرية، بل كانوا في مرحلة إعادة تشكيل تراثهم، ليتوافق مع روح العصر. وبينما كانت تركيا تسير على طريق الحداثة والعلمنة، منذ إعلان إلغاء الخلافة الإسلامية في 1924، ستخضع المنطقة العربية أكثر فأكثر للشبكة الكولينيالية، وبدا أنه لم يعد في وسع مجتمعاتها أن تتطور وفق آلياتها الذاتية، بقدر خضوعها لمنطق السوق الإمبريالية، فكان أي تحديث ما هو إلا حداثة أوروبية مشوهة، لاسيما بعد فشل البرجوازية العربية التجارية الناهضة في القيام بدورها الوطني، حين انتقلت من موقع المناهضة لتتحول إلى أحد جيوب الإقطاع، ولتلعب دور وسيط (كومبرادور) بين مجتمعاتها والمركز الامبريالي. أما احتقان الروح المحافظ، بعد إلغاء الخلافة، فلم يشف غليله الهجوم على شخص وكتاب العلماني المؤمن، علي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم)، بل امتد لاحقاً، ليطال فكرة دنيوية السلطة المستمدة من الإصلاح الديني، باعتبارها إحدى ثمرات تآمر الغرب على الإسلام.

حاول حسن البنّا إخراج الإصلاح الديني من دائرته النخبوية، ليجعل منه إصلاحاً جماهيرياً. وفي ظل ضعف السلطة المركزية تحت الانتداب البريطاني، شكلت جماعة الإخوان المسلمين ما يشبه الدولة داخل الدولة، فنشطت فرق الجوالين (الكشافة) التابعة للحركة، لتدير وتنشئ مرافق، وتقدم خدمات وتؤمن فرص عمل. كانت الحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية من أهداف "الإخوان". ومع أن البنّا لم يفضّل اللجوء إلى العنف، إلا في حالات قصوى، فإن "الجهاز السري" للحركة بدأ نشاطه منذ عام 1943، ليخرج عن سيطرة القيادات السياسية، ويمارس العنف المسلح، الأمر الذي تسبب في مقتل البنّا نفسه. ومع تسرب أفكار أبوالأعلى المودودي إلى مصر، منذ الخمسينيات، لتصبح مع سيد قطب أكثر راديكالية، ستصبح قسمة المجتمعات إلى داري كفر وإسلام، آلية لإنتاج كل أشكال العنف الممكنة حتى يومنا.


العلمانية شعاراً
مع ولادة الدولة الوطنية في مرحلة الاستقلال، رفعت الأيديولوجيات العربية التي هيمنت على أنظمة الحكم شعار العلمانية، وأخذت على عاتقها استكمال عمليتي التحرر والحداثة. لكن، بحكم طبيعتها الشمولية، كانت أيديولوجيات دمج لا أيديولوجيات فصل. فغابت الديمقراطية بتغييب مبدأ فصل السلطات، وحال التداخل بين المجتمعي والسياسي والديني، وهيمنة الدولة عليها، دون علمنة الدولة واستقلال المجتمع المدني. وبدل تحرير الدين من السياسة، عملت تلك الأيديولوجيات على تسييس الدين، للتعويض عن شرعيتها المفقودة، ما جعلها تقف عند حدود الحداثة السياسية من دون أن تتخطاها. الأمر الذي حفظ للأيدولوجيا الأصولية حضوراً جماهيرياً، وفعلاً اجتماعياً، طالما كان ديدنها المصالحة والتواطؤ مع السلطة السياسية. وفي حال فشل الطرفين (السلطة والأصوليين) في الحفاظ على حالة التوازن تلك، كان العنف هو الحكم بين الطرفين، دفعت المجتمعات ثمنه باهظاً. وقد أصبحت هذه الوضعية المذكورة أحد أمراض المجتمعات العربية، فكان بقاء المجتمع من دون تحديث واستبدال تسييس الدين بالعلمانية، مع وجود أقليات دينية وعرقية، طالما رفضت الاندماج، يتحول إلى قنبلة موقوتة، انفجرت مع انطلاق "الربيع العربي"، في ظل ضعف السلطة وتفكك الدولة، لتنتج هذا الكم من العنف الطائفي والتطرف الديني.

تعرضت العلمانية للهجوم والتشويه من المعارضة الأصولية التي هدفت إلى الاستحواذ على السلطة، لا تسويق قيم الإسلام الروحية وممارسة شعائره بحرية، فهذا ما تكفله الأنظمة العلمانية، حين تكف يد الدولة عن المجتمع المدني، فتكفل الحريات العامة، بما فيها حرية التدين والاعتقاد، ويستعيد الدين فاعليته الاجتماعية. لذا، استمرت أدبياتها وخطابها في تصوير العلمانية نزعة إلحادية، هدفها فصل الدين عن المجتمع. المعارضة العلمانية، وبحجة خطر قيام الدولة الدينية، لم تسع إلى تكريس الفكرة العلمانية، بقدر سعيها إلى تهميش الدين، فتطرفت في الاستفزاز والسخرية، حتى من التدين الشعبي، لتتورط، لاحقاً، في تسييس الدين، تعويضاً عن ضمورها الجماهيري. فلم يوفر هؤلاء، لا سيما اليساريين منهم، مناسبةً دينيةً إلا وباركوها، ولا ممارسة طقسيةً إلا وشاركوا فيها، في صورة أقل ما يقال عنها إنها في منتهى الكاريكاتورية. تم تشويه العلمانية على أيدي الأعداء والأصدقاء سواء بسواء، واختزلت العلمانية في المسألة الدينية، ولم تبرز، كما هي في حقيقتها، مسألة سياسية توظف بوصفها أحد العناصر الأساسية في سيرورة استكمال بناء الدولة الحديثة، وبروز المجتمع المدني واستقلاله عنها. ومع فشل التحديث، كانت النتيجة شبه دولة وحراكاً مدنياً محدوداً.

وبينما يرى المؤمنون المسيحيون، اليوم، أن العلمانية تحرر الدين من أعباء السياسة، لا يزال الاعتقاد أن الإسلام دين ودنيا هو المسيطر على الفكر الإسلامي. وبالإضافة إلى الحداثة والنهوض الثقافي، لم يكن الإصلاح الديني الأوروبي ممكناً، لولا وجود علمانيين على استعداد للاستغناء عن وساطة الكهنة في حياتهم الروحية، الأمر الذي يجعلنا ننحاز إلى أولوية الحداثة والعلمانية على الإصلاح الديني الذي يبدو اليوم، لدى بعضهم، ضرورة لحل مسألة التطرف الإسلامي. لكن، تستطيع العلمانية أن تكون في خدمة الإصلاح، لا العكس، ناهيك عن أن أي إصلاح ديني منشود يصطدم بغياب مرجعية دينية إسلامية موحدة، يطالها الإصلاح، كما كان الحال مع حركة الإصلاح الديني البروتستانتية. كما أن الأخيرة، ومعها ما عرف بالإصلاح المضاد، لم تستطع منع سنوات طويلة من الحروب الدينية والمذهبية، بينما كانت العلمانية إحدى أهم العناصر المؤسسة لعصر الدولة الحديثة والاستقرار الأوروبي، منذ صلح وستفاليا (1648)، الاستقرار الذي تزعزع بتراجع العلمانية إبان سيطرة الأيديولوجيات الشمولية في القرن العشرين.

يقدم "الربيع التونسي"، وما حققه من نجاحات، تجربة عربية استثنائية، ودرساً مفيداً، في مدى قدرة العلمانية على الإسهام في الحداثة السياسية والتحولات الديمقراطية. العلمانية التي بدأت بتوطيد قدمها في المجتمع التونسي، مع انطلاق التحديث، منذ تحالف رجال جامع الزيتونة مع خير الدين التونسي، في القرن التاسع عشر، لتكف عن نخبويتها، وتتمدد أفقياً وعمودياً في تونس ما بعد الاستقلال، لتبقى وتفرض نفسها على أكبر الأحزاب الأصولية، وهو حزب النهضة، باتجاه الإصلاح الفكري، لتبني التعددية السياسية، وتقبل عدم التنصيص على الشريعة في الدستور. لكن، مع ذلك، لا تزال الفكرة العلمانية في العالم العربي بحاجة إلى مراجعة شاملة، لا سيما وأنها بقيت دون تجاوز علمانية القرن الثامن عشر الأوروبي، كما انعكست في علمانية رواد عصر النهضة العربية، بل ربما كنا بحاجة إلى إعادة علمنة العلمانية العربية، فكراً وممارسة.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.