العلاج بالتدخل الخارجي

العلاج بالتدخل الخارجي

23 فبراير 2015

ليبيون يتظاهرون في طرابلس ضد التدخل الخارجي (17فبراير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

مع تفاقم الأزمة في ليبيا، وتمدد فرع تنظيم الدولة الإسلامية هناك، وإعلانه المصوَّر عن قتل عمال مصريين، تقدمت الحكومة المصرية بطلب (سحبته لاحقاً) للتدخل الدولي في ليبيا، عبر قرار يصدر من مجلس الأمن، وهو طلب يتماشى مع رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تحدث، قبل تبوئه منصب الرئاسة، عن خطأ الغرب في ليبيا، المتمثل بعدم "استكمال" التدخل هناك، وترك البلاد في حالة فوضى. صحيح أن هذا الموقف يعكس حجم الفشل والعجز العربيين، مثل كل طلبات التدخل الخارجي في ليبيا وسورية، خلال السنوات الأخيرة، لكن الأهم أنه يشير إلى عدم فهم دور التدخل الخارجي، في غياب الاستقرار وتفكيك المجتمعات.

عندما بدأت حملة حلف الناتو في ليبيا عام 2011، رحب بها كثيرون في العالم العربي، من ليبراليين وإسلاميين، وعلى الرغم من أن بعضهم عارض غزو العراق عام 2003، لكنهم لم يجدوا مشكلة في تأييد تدخل "الناتو" في ليبيا، بحجة وجود اختلافٍ بين الغزو البري والضربات الجوية التي لا تتضمن احتلالاً مباشراً. ويغفل هذا الطرح أن العمل العسكري وسيلة لتحقيق أهدافٍ استراتيجية، تتعلق بتوسيع النفوذ، والهيمنة على الموارد، والحصول على امتيازات اقتصادية، والتحكم، تالياً، بالقرارات الكبرى في الدولة. لذلك، لا يبدو الاختلاف كبيراً بين الضربات الجوية والغزو البري، في محصلة الأهداف المراد تحقيقها من التدخل، خصوصاً وأن عدم الإقدام على غزو بري، متصل بتقليل الكلفة، وليس بالتمنع عن الهيمنة.

لا يؤثر هذا النقاش كثيراً في من يقيسون مواقفهم من التدخلات الخارجية، وفقاً لمصالحهم الحزبية أو الفئوية، فيرفضون تدخلاً ما لأنه لا يصب في صالحهم، ويختلقون الأعذار الواهية لتبرير تدخل آخر، عندما يأتي لنصرتهم على فئاتٍ أخرى. ويبدو أن الحديث عن إنتاج التدخل الخارجي لهيمنة اقتصادية وسياسية، وضربه لسيادة الدول العربية، وعدم قدرته على بناء نماذج ديمقراطية صالحة، قد تكرر كثيراً في مجمل النقاشات حول التدخل الخارجي، منذ عام 2011، وقبله في النقاش حول غزو العراق. لكن، ما لم يتم لفت النظر إليه كثيراً دور التدخلات الخارجية في تفكيك المجتمعات العربية، وإشاعة الفوضى والحروب الأهلية فيها.

في ليبيا، لعب التدخل الخارجي دوراً كبيراً في حصول حرب أهلية واسعة، إذ إنه انتصر لفئة على أخرى داخل المجتمع الليبي، واستشعر الطرف المهزوم غدر الطرف المنتصر به، عبر استعانته بحلف الناتو، في الوقت الذي انهارت فيه الدولة، وصارت المليشيات الممثلة لهويات جهوية وقبلية، تتصارع فيما بينها على النفوذ، وتفتح الباب واسعاً لتدخلات مختلفة، إقليمية ودولية، والنتيجة كما نراها: حكومتان في البلاد، وصراع بين فريقين من المليشيات، وغياب للأمن، والدولة ذاتها، ومطالب بالمزيد من التدخلات. لم يقدم التدخل الخارجي في ليبيا نشر السلاح والفوضى، ولم ينجح النموذج "الديمقراطي" الليبي الذي تم تسويقه إعلامياً، بعد سقوط القذافي، واليوم تشكل الحالة الليبية تهديداً واسعاً لكل الجوار.

النموذج العراقي مفيد في توضيح فكرة تفكك المجتمعات بالتدخلات الخارجية، فقد أدى دعم القوى الشيعية العراقية الغزو الأميركي إلى ردة فعل عدائية في الوسط السني، وقناعة بأن هذه القوى الشيعية تستهدف السنة، عززها سلوك هذه القوى، عندما وصلت إلى الحكم، وتُرجِمَ انهيار الثقة إلى تمدد للجماعات الجهادية، وحروب أهلية، وفشلٍ للنظام السياسي، ولم تتوقف المسألة عند التدخل الأميركي، فقد عزز نفوذ إيران المتعاظم في العراق، وتدخلها في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، من فقدان الثقة بين المكونات العراقية، وتصاعد الحالة الطائفية، وطالما بقيت التدخلات الإيرانية والأميركية، فسيظل المجتمع العراقي يعاني من التفكك، خصوصاً وأن بوادر التقسيم، بفعل التدخل الخارجي، تلوح في الأفق.

وفي سورية، ركزت المطالبات بالتدخل الخارجي، لنصرة الثورة هناك، على إنقاذ المدنيين، وتقليل عدد القتلى، من جهة، وقطع الطريق على نمو الجماعات "المتطرفة"، من جهة أخرى. ويمكن القول إن التدخل الخارجي الجزئي الذي حصل في سورية، من أطراف إقليمية وغربية، عبر فتح الحدود من تركيا والأردن، ومد تنظيمات المعارضة بالكوادر البشرية والأسلحة، قد أدى إلى زيادة عدد القتلى المدنيين (كما هو حال التدخلات في العراق وليبيا)، وأوجد في سياق الحرب الأهلية الدائرة، والأحقاد الناجمة عنها، بين المكونات الاجتماعية، والتي أسهمت فيها التدخلات الخارجية، بيئة صالحة لنمو الجماعات "المتطرفة"، وصولاً إلى سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة، من دون إغفال دور النظام السوري، في إيجاد هذه البيئة، عبر كارثية إدارته.

لا تقدم نداءات الاستغاثة بالناتو غير تكريس الإشكال، بطلب المزيد من الداء، ففي حين يعتقد بعضهم أن التدخل الخارجي يؤدي إلى نتائج حاسمة، ويقضي على الفوضى، تثبت تجارب البلدان العربية أنه يسهم في نشر الفوضى، وتعميق الأحقاد بين المكونات الاجتماعية، وتعزيز الانقسامات على أساس الهوية، بما يؤدي إلى ظهور الحركات الراديكالية، وتقويتها، وتقسيم البلاد بين أطراف الصراعات الأهلية.

بدلاً من الإشارة إلى دور التدخلات الخارجية، في إشاعة الفوضى، وتعزيز الانقسامات الأهلية، يُطلب المزيد من التدخلات لمعالجة الفوضى، وحماية، أو نصرة، فئة على أخرى، داخل مجتمعاتنا، فتكبر المأساة.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".