العرب والتداول السلمي على السلطة

العرب والتداول السلمي على السلطة

14 فبراير 2015

المرزوقي يغادر الرئاسة في تونس ويسلمها للسبسي (31 ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

تحدّث ابن خلدون، في مقدمته، عن نوع من الطِّباع العربي في التمسك بالحكم يقود، في نهاية المطاف، إلى انهيار العمران، قائلاً "وفي العرب متنافسون في الرياسة، وقلَّ أن يُسلم أحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه، أو أخاه، أو كبير عشيرته، إلاّ في الأقل، وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدّد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام، فيُفسد العمران وينتفض". لا ينطبق هذا التحليل الخلدوني الوجيه فقط على الحقبة الزمنية السابقة لعصره، بل وأيضاً على الحقبة الزمنية التي تلته، وإلى يومنا هذا. ومن ثم، إن عملية التداول على السلطة التي تمثل الحلقة المفقودة في مسار التحول الديمقراطي، في العالم العربي، هي أيضاً نتاج تراكمات تراثية، مبنية اجتماعياً من حيث الرواية، ومن حيث التقديس، إلى درجة الخلط أحياناً بين النص المنزل وتفسيراته الوضعية... فمنذ تحول الخلافة إلى حكم ملكي عضوض على يد معاوية، أقصيت الإرادة الشعبية، وأصبحت البيعة، الطوعية أساساً، قسرية وما على المواطن إلا الخضوع للحاكم المستبد، وإلا ألقى بنفسه إلى التهلكة. في ظل هذا الواقع التسلطي، الذي تعمق عبر العصور، لم يكن التداول على السلطة ممكناً، فاستفحلت السلطة المطلقة، وشبه المطلقة، بمسوغات دينية متناقضة المفردات: القول بالحكم بشرع الله، بينما السلطة قائمة على التوريث مثلاً! والنتيجة مزدوجة: توظيف النص الديني، لفرض رواية مضادة للرواية الرسمية التي وظف أصحابها الدين لفرضها بالقوة. فكان أن أصبح العنف الوسيلة الوحيدة الممكنة للتغيير، إلى أن جاء الربيع العربي، بنسخته التونسية، ليحدث قطيعة معرفية-سياسية، مؤكداً إمكانية إحداث التغيير سلمياً، لكن الشاذ يحفظ، ولا يقاس عليه. أما التغييرات التي حدثت في بعض الدول، مثل الجزائر التي شهدت أول انتخابات رئاسية تعددية في العالم العربي في 1995، وتعاقب عدة رؤساء، فإن التغيير كان جزئياً، وداخل النظام، وليس خارجه.

ولئن غاب مبدأ التداول على السلطة، استفحل نقيضه بشقيه، الحكم على مدى الحياة وتوريث السلطة. إذ لا يوجد زعيم عربي، باستثناء الحالة اللبنانية التي لا تفسر بالعامل الديمقراطي، وإنما بالعامل الطائفي (التعدد الطائفي وتوازناته)، تخلى عن السلطة بمحض إرادته، أو عند نهاية ولايته، بل يتم خلعه بطريقةٍ أو بأخرى. وبالتالي، لا يحدث التغيير إلاّ من خلال أربع طرق: الموت الطبيعي للحكام، الانقلابات العنيفة (في معظم الحالات)، الانقلابات الهادئة، وأخيراً الأزمات السياسية الحادة (حال الجزائر في تسعينيات القرن الماضي). وأدى غياب التداول على السلطة والمشاركة السياسية إلى نتائج انتخابية خيالية، تصل إلى حدود (خيالية) 99% من أصوات الناخبين (ولو أن تجارب، مثل تجربة الجزائر، خفضت هذا الرقم إلى حدود 70%) لصالح المرشح الوحيد والأوحد الذي رُفع بحد السيف إلى مصاف خليفة الله (السياسي-الديني) في الأرض، ليكون بذلك أميراً (بالمعنى الماكيافيلي)، وإماماً في الوقت نفسه.

وهناك ثلاثة اتجاهات زادت المشهد السياسي العربي تعقيداً وتخلفاً. يكمن الاتجاه الأول في توريث السلطة الذي لم يعد ينسحب على الملكيات، بل امتد، أيضاً، إلى الجمهوريات، وإن كان النموذج الوحيد الناجح، في هذا الإطار، هو النموذج السوري (خلافة بشار لوالده حافظ الأسد)، بيد أن سلطته على المحك، حتى جاء الربيع العربي ليوقف، ولو لحين، السيل الجارف للتوريث الذي كان قاب قوسين، أو أدنى من السلطة في مصر، وربما في ليبيا واليمن. ويتمثل الاتجاه الثاني في اللجوء إلى تعديل الدساتير، من أجل الرئاسة على مدى الحياة. ونجح الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، في تعديل دستور البلاد، ليترشح ويفوز بعهدة ثالثة، ثم رابعة، على الرغم من مرضه، فيما فشل زين العابدين بن على في مسعاه في تونس، قبل أن تطيحه الانتفاضة الديمقراطية في البلاد. أما الاتجاه الثالث، وربما الأخطر، بالنظر إلى سياقه، فيتمثل في الانقلاب على السلطة الشرعية، المنتخبة ديمقراطياً، لإعادة النظام القديم في حلة معدلة في جزئها الظاهر، كما حدث في مصر، حين انقلب العسكر على الرئيس المنتخب، مدشنين أول ردة انتقالية في دول الربيع العربي.

ومن ثم، فالنموذج الوحيد الذي يسير في اتجاه معاكس للتيار السائد، بمختلف نماذجه الفرعية، هو النموذج التونسي بعد خروج البلاد بسلام من الطور الأول للمرحلة الانتقالية. فبغض النظر عن عودة الحرس القديم إلى الحكم، ولكن، عبر انتخابات ديمقراطية، فإن تونس هي البلد العربي الوحيد الذي عرف أول تجربة حقيقية في التداول السلمي على السلطة. ومن ثم، هي بحاجة لتدعيم ديمقراطيتها الناشئة في بيئة عربية، تتميز بتدعيم التسلطية، مغربياً ومشرقياً، بمسوغات جديدة-قديمة.