كتم أنفاس المجتمع المدني في السودان

كتم أنفاس المجتمع المدني في السودان

11 فبراير 2015

ناشطة حقوقية سودانية (فبراير/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

المجتمع السوداني شديد الحيوية، شديد التفتح. وربما يعود السبب في ذلك إلى التاريخ الحضاري الطويل للقطر، ولتنوعه الإثني، والديني، والثقافي، الذي يقل مثيله. اشتهر السودانيون بكلفهم وحبهم للثقافة، وبمثابرتهم الاستثنائية في متابعة الأنشطة الثقافية، وكذلك حبهم الانخراط في أنشطة العمل العام. ولقد عُرفت الجامعات السودانية بأنها من أكثر الجامعات احتشادًا بالأنشطة الطلابية؛ السياسية، وغير السياسية. ولقد دفعت هذه الخاصية كل الأحزاب السياسية السودانية، لكي تفرد حيزًا معتبرًا للجامعات في مجمل برامجها، وأنشطتها.

ينعى مفكرو ما بعد الحداثة، على برادايم الحداثة، سوقه البشر المعاصرين إلى الفردانية، في أكثر تجلياتها سلبية. ومن بين هؤلاء المفكرين، الناقدة الفنية، سوزي غابلك. ويمكن القول إن السودان، على فقره، وتأخره في الإمساك بعُرى الحداثة، يملك رصيدًا معنويًّا جبارًا، يضعه في أطر ما بعد الحداثة، وقيمها، التي ظل التبشير بها، يجري منذ فترة، كالتعاون، والجماعية.

من أبرز صنوف العمل الجماعي، التعاوني، التضامني، التقليدية، في السودان، ما يُسمى، "النفير". واللفظ تحريف عاميٌّ سوداني، لكلمة "النَّفْرُ" التي يقول عنها قاموس المعاني: "القَوم يُسرعون إلى أَمرٍ أَو قتال". فـ "النفير" يعني في السودان تنادي الناس، وتضافرهم، من أجل مساعدة أحد أفرادٍ المجتمع، في عملٍ عجز عن أدائه، بسبب الفقر، أو المرض، أو العجز البدني، أو قلة الأيدي العاملة المتاحة له، لصغر حجم الأسرة، أو عدم وجود أقارب. والأعمال التي يقوم بها "النفير" هي، على سبيل المثال، تشييد حائطٍ انقضّ، أو بناء بيتٍ، أو سقيفة، أو تنظيف مزرعة من الأعشاب الطفيلية، أو انتشال بقرةٍ غطست في الوحل.

مع نشوء الدولة الحديثة، اتخذت تلك الروح الجماعية التعاونية التضامنية في السودان، لنفسها صورًا حداثية جديدة، تمثلت في العمل الطوعي العام، وفي الأنشطة الثقافية، في المراكز الثقافية، والأندية، والجمعيات المختلفة. وكانت "مبادرة التعليم الأهلي" واحدة من أبرز المبادرات المجتمعية الطوعية، الكبيرة التي سبقت الاستقلال بسنوات قليلة، حيث تنادى المواطنون، وقاموا بتشييد عشرات المدراس، بجهدهم ومالهم. هبّوا لذلك، حين رأوا تقاعس السلطات الاستعمارية البريطانية، وتلكؤها في تشييد المدارس، حرصًا على بقاء حكمها الاستعماري. أما بعد الاستقلال، فقد انتشرت في مدن السودان، وقراه، الأندية الرياضية، والثقافية، والاجتماعية. وحين بدأ أداء الدولة، في التدهور، في حقبة السبعينات من القرن الماضي، وما تلاها، انتشرت الجمعيات الطوعية التي تعمل في مساعدة أهل الريف بالتثقيف العام، والعون الصحي، والعون الغذائي، والتدريب، ورفع القدرات، وغير ذلك. ومع توالي الكوارث والأزمات، وتراجُع أداء الجهاز الحكومي، اندفعت إلى داخل البلاد عشرات الجمعيات الطوعية الأجنبية، خصوصاً الغربية، مستفيدة من روح التطوع وحب العمل الجماعي، السائدة في الحياة السودانية.

دخل العمل الطوعي، والعمل الثقافي، في السودان، في أكثر أوقاته حرجًا، في ظل حكومة الإسلاميين الحالية. جنحت هذه الحكومة، منذ وثبت إلى السلطة، عن طريق الانقلاب، إلى احتكار الفعل، ومنع الآخرين منه! ظل اسلاميو السودان، يعملون بدأبٍ غريب، على اخراج كل فاعلٍ آخر، لا ينتمي إلى تنظيماتهم، خارج الحلبة. هذا، مع أن الحكومات الرشيدة، تسعى، بكل طاقتها، لاستقطاب أكبر قدر ممكن من الفاعلين المجتمعيين، ليعملوا إلى جانبها. ولا توجد حكومة، تعرف أصول الحكم، يمكن أن تستغني عن جهود المجتمع المدني، اللهم إلا حكومة لا تعرف، أصلاً، ما هي الموارد والطاقات التي تحتاجها لتنجز خططها وبرامجها. فالمواطنون هم هدف التغيير، وهم، في الوقت نفسه، أداته الرئيسة. وبما أن الأنظمة العسكرية، عادةً، ما تأتي إلى الحكم، بلا معرفة، وبلا خطط واضحة، وبلا فهم لآليات التغيير، كانت حكومة الاسلاميين الانقلابية، الأكثر كرهًا، بين رصيفاتها، للعمل الطوعي، ولمنظمات المجتمع المدني. فهي لم تر فيها إلا تهديدًا لسلطتها، وسحبًا للبساط من تحت أرجلها، وفضحًا لعجزها. كما أنها لم تر فيها، سوى حاضناتٍ لقوى المعارضة. لذلك، ظلت تعمل، وبدأبٍ شديد، لقتلها.

في العام قبل الفائت، قامت مجموعةٌ من الشباب، أسمت نفسها "نفير"، استنادًا على تاريخ ثقافة "النفير"، في المجتمعات السودانية، بالعمل وسط الأهالي، في المناطق التي جرفتها السيول وهدمت منازلها، فأضحى أهلها في العراء. في فترة وجيزة جدًا، أصبح اسم هذه المجموعة، من الشباب النشط، على لسان كل سوداني وسودانية. بل، اختطفت تلك المجموعة، بديناميتها، أنظار الإعلام العالمي، أيضا. حينها أحست الحكومة بالخطر، وأن هناك من فضح عجزها، وكشف تقاعسها. بان أن هناك من يؤدي العمل بكفاءة أكثر، وبشفافية لا تعرفها أجهزة الدولة الملوثة بالفساد، وبالأجندة الغامضة. وضح للناس، منذ الوهلة الأولى، الفرق، بين شباب "نفير" والعاملين في أجهزة الدولة الإغاثية؛ المنشغلين بأجندة السلطة، وبأجندتهم الخاصة، أكثر من انشغالهم بما ما أصاب الناس من ضرر.

لم تستطع الحكومة صبرًا على ذلك الوضع، فتدخلت، بكل طاقتها، للتضييق على مجموعة "نفير"، حتى أخرجتها من الصورة تمامًا. تولت الحكومة كل شيء بنفسها، لتعود الأمور إلى سيرتها الأولى من العجز والتقاعس، وانعدام الشفافية. كان همُّ الحكومة الأول والأخير أن تكون هي في الصورة، ولم يكن همها الأول، أُغيث الملهوفون، أو لم يُغاثوا. فدأب حكومة الإسلاميين الثابت في السودان، هو: إما أن تفعل الشيء، وحدها، أو أن تعرقله. وهكذا تقود الشمولية، وعنجهية "أنا الدولة"، الحكومات لتصبح حربًا على المجتمع، وأداة لتجريف أفضل وأنبل ما فيه من قيم. وهكذا، يصبح الجهد الحكومي منصبًا، حصريًا، في قتل روح المبادرة، وروح العمل الجماعي، وقتل نزعة الأفراد للاستقلال بأنشطتهم، عن سيطرة الدولة، وهيمنتها، وذاك حق يكفله أي دستور ديمقراطي. فهو يصب في مصلحة من يحكمون، لو كان من يحكمون يعرفون أصول الحكم الرشيد.

أغلقت الحكومة السودانية، تباعًا، في العامين الماضيين، مجموعة من منظمات المجتمع المدني، غير الحزبية، وغير الربحية. منها مركز الدراسات السودانية، ومركز الخاتم عدلان للتنوير والتنمية البشرية، وبيت الفنون، ومركز صيحة، ومركز سالمة، ومركز الأستاذ محمود محمد طه، بل، واتحاد الكتاب السودانيين. مارست هذه المراكز والجمعيات أنشطتها لسنوات وفق تصديقات من السلطات. فأشعلت الحراك الثقافي في العاصمة السودانية، كما تغلغل الشبان والشابات، من خلالها، في العمل الاجتماعي النشط، في أحزمة الفقر حول المدن، وفي أعماق الريف. غير أن الحكومة لم تحتملهم، فسعت لقتل أنشطتهم.

بعد موت اتفاقية نيفاشا، وانفصال الجنوب، أخذت الحكومة تنقلب، شيئًا، فشيئاً، على المنظمات الطوعية، والمراكز، والاتحادات الثقافية، فأخذت تغلقها واحدًا بعد الآخر، كما تقدم ذكره. ولاستكمال حالة الموات التام، قام برلمان الحكومة، أخيراً، بتعديلاتٍ دستورية، في سابقةٍ لا تعرفها البرلمانات التي تستحق اسمها، كرّس بها البرلمان السوداني المزعوم السلطات جميعها، في يد الرئيس عمر البشير. والآن، يتهيأ البشير لخوض انتخابات، في أبريل/نيسان المقبل، بلا منافسة، حقيقية، من أحد. بعد فوزه المحتوم، في إبريل، لن يملك الرئيس البشير، إلا أن يقول، للسودانيين، ولغير السودانيين: "أنا الدولة"، تمامًا، مثلما قالها قبله موسيليني. الجديد في الأمر، هذه المرة، أنه سيقولها وحده، بعد أن كان في الماضي يقولها، بالشراكة مع أجهزته، ومنها حزبه الحاكم.