الإسلام.. إشكاليات الصورة والتفسير

الإسلام.. إشكاليات الصورة والتفسير

10 ديسمبر 2015
+ الخط -
تناولت بعض الميديا خبر تحرير نسخة من القرآن المترجم إلى الإنجليزية، في الولايات المتحدة الأميركية. تضمنت تلك النسخة، المسماة "قرآن الدراسة"، تفسيرات وتوضيحات لعلماء دين، من الطائفتين السنية والشيعية. وهدفت، وفق محرريها، إلى "استعادة القرآن من المتشددين"، بتقديم تفسيرات مختلفة للآيات الداعية إلى العنف، وتوضيح ظروفها ومجالات تطبيقها وحدوده.
تَضمُر عبارة "استعادة الدين من المتشددين" محاولة تحسين صورة الإسلام، بتقديم تفسيراتٍ من شأنها إثبات انحراف الفكر المتطرف عن الفهم الصحيح للقرآن. ولا سيما أن الإعلان عن هذه النسخة يأتي بعد تصاعد الخطاب السياسي العنصري ضد اللاجئين المسلمين في أميركا، عقب الهجمات التي شنها المتطرفون الإسلاميون، في أوروبا وأفريقيا، وقبيل الهجمات الأخيرة في كاليفورنيا.
يطرح تفسير القرآن إشكاليات عدة، يتعلق أحدها بالجهة البشرية المخوّلة ادعاء احتكار الفهم الصحيح الذي يمثل حقيقة الوحي الإلهي. فلم يعترف الإسلام، بتوجهاته العامة، بوسيطٍ بين الله والإنسان. وعلى الرغم من التعددية الدينية، لم يكن لأحد أن يدّعي الاحتكار المطلق للقرآن والسنّة، تأويلاً أو تفسيراً. بل توغلت تلك التعددية في الفكر الإسلامي، بفضل غياب جهاز كهنوتي حقيقي، يُناط به حسم الخلافات العقائدية والشرعية، ويفرض حلاً وحيداً، أما ما بدا أنه أرثوذكسية إسلامية، فلم تَعْدُ أن تكون نوعاً من التواطؤ المعلن، أو غير المعلن، بين السلطة السياسية وأحد المذاهب الفقهية أو العقائدية في عصر ما. نقول ذلك، من دون أن ننكر ما لعبه هذا التسييس للدين من إعاقة لتطور الفكر الإسلامي، لا سيما في توجهاته العقلانية.
والقرآن، كما يبيّن أحد أئمة المذهب الشافعي، وهو البغوي (شرح السنة) "مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، أنزله الله جملةً إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزّله مفرقاً عند الحاجة، وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة". وهو جميعه، وفق الاعتقاد الإسلامي، وحي مباشر من الله، على خلاف اليهودية التي تنظر إلى الإصحاحات العشر الأولى فقط من العهد القديم، باعتبارها كذلك، والمسيحية التي تنظر إلى الأناجيل الأربعة لآباء الكنيسة، على أنها نوع من الوحي غير المباشر إليهم. وهنا، تبرز إشكالية أخرى، تتعلق بالعلاقة بين المطلق والنسبي. فكيف يمكن للنسبي (البشري) الإحاطة بمقاصد المطلق (الإلهي)؟ تبدو هذه الإشكالية مركزيةً، لا سيما في مجتمع إسلامي، تأسس على النص، منذ "جماعة المؤمنين" الأولى في يثرب، ليستمر هذا النص سلطةً معرفيةً حكمت مجمل عملية الإنتاج الفكري اللاحق، وهيمنت على مجمل توجهاته المختلفة والمتعددة حتى يومنا هذا، الذي سعت فيه الأصولية المعاصرة إلى إعادة الاعتبار لتلك السلطة، بتأكيد شمولية النص، ورفعت السلفية منها فهمها البشري النسبي للقرآن، إلى درجةٍ، يتطابق فيها مع الوحي المطلق.
كان النبي يشرح لأصحابه ما خفي عليهم من معنى، مفصّلاً أحكام القرآن، ومبيّناً ناسخه من
منسوخه. لكن، بعد وفاة النبي، وتقادم العهد، سيختلط الناسخ بالمنسوخ، وسيصبح من الصعب الحصول على اتفاق عام، كما أن غياب علامات الترقيم والتشكيل والتنقيط في المصاحف الأولى أدى إلى تعددية في القراءة، وبالتالي، تعددية في الفهم. ومع احتدام الصراع السياسي والأيديولوجي، بعد مقتل الخليفة الثالث، والمنافسة التقليدية على الزعامة المكّية المستمرة منذ ما قبل البعثة النبوية، بين بني هاشم وبني أمية، أدرك بعضهم، ومنهم علي بن أبي طالب، أحد خصائص القرآن بوصفه نصاً، حين أعلن عقب معركة صفين أنه "حمّال أوجه".
يضع الماوردي في "نصيحة الملوك"، يده على حقيقة انفتاح بنية النص القرآني على صعيدي: أولاً، القراءة: "وكلام كل كتاب وأخبار كل نبي، لا تخلو من احتمال تأويلات مختلفة، لأن ذلك موجود في الكلام، كلما كان أفصح وأعرب وأحسن نظماً وأبعد مخرجاً، كان أشد احتمالاً لفنون التأويلات وضروب التفاسير". ثانياً، المضمون (الموضوعات والأحكام والتصورات العامة): "ولا بد في الدين من وقوع الحوادث التي يُحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها، وعن خبرٍ يُشكل معناه، وأثر تختلف التأويلات في فحواه على مر الأيام". أدى تعدد القراءة إلى إنتاج الاتجاهات والمذاهب المختلفة إزاء النص الواحد.
وإذا كانت "الوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص"، كما يذهب ابن خلدون (المقدمة)، فإننا أمام إشكالية العلاقة بين الثابت والمتحوّل، أو بين النص والواقع. وبعد أن كانت الحركة تتم من النص إلى الواقع، اقتضى السياق الإسلامي اللاحق الانتقال من الواقع إلى النص، لاستنطاقه تشريعات جديدة، تتناسب والتطورات المستجدة في حياة المسلمين، وظهرت المنهجيات المتعددة لاستنباط الأحكام الشرعية، ولعبت آلية "النسخ" دوراً مهمّاً في تغيّر التشريعات ومواكبتها للعصر.
لم يخل تفسير القرآن من تعدديةٍ منهجية، أفضىت بدورها إلى نتائج مختلفة، فوجد أصحاب التفسير بالرأي أن فهماً ذاتياً (عقلياً) مشروطاً ومضبوطاً أمر مشروع، وأن الاجتهاد في الفهم جائز. وتحلّى بعضهم بحسٍّ تاريخيٍّ يجعل من أسباب النزول عاملاً حاسماً في الفهم، واستنباط الأحكام الشرعية. أما أصحاب التفسير بالمأثور فتمسكوا بفهم موضوعي، يرتكز على شمولية النص الذي توسّع مجاله لاحقاً، ليشمل السنّة منذ الإمام الشافعي.
حُسم الصراع السياسي والأيديولوجي لصالح هيمنة المنهجية الثانية، وإليها استندت السلفية المعاصرة، لا سيما في نسختيها الأكثر تطرفاً، "القاعدية" و"الداعشية"، فرفضت أي ذاتية في عملية التفسير، ورأت السنة حاكمةً على الكتاب، ما يضاعف من مأزق العملية التفسيرية، حين تضيف إلى إشكاليات تفسير القرآن الإشكاليات الخاصة بالسنة النبوية، والمتعلقة بالتوثيق، إذ لم يمنع تطوير علوم الحديث ومنهجياته وأدواته غزو الأحاديث الموضوعة، لما جُمع من حديث في خضم الصراع السياسي والأيديولوجي المتصاعد، وتوظيفها المستمر في ظل جدلية الديني والسياسي.
لم يتَسنَّ لنا بعد الاطلاع على "قرآن الدراسة"، للتثبّت من المنهجية المتّبعة في التفسير، أو إذا ما كانت تلك التفسيرات منتقاة من تفسيرات سابقة. لكن، يمكن القول عموماً إن ما يبدو حاسما اليوم ليس التفسيرات الأكثر تسامحاً التي يسمح بانتقائها انفتاح بنية النص القرآني نفسه، طالما لم تقطع الطريق على تفسيراتٍ انتقائية مناقضة، تلقفتها عدمية الفكر المتطرف، بل تطوير منهجية تفسيرية علمية عقلانية، في ضوء النظريات المعاصرة للمعرفة، تتصدّى لحسم إشكاليات التفسير التي ذكرنا أهمها.
وعلى هذه "الهرمنيوطيقا" الإسلامية الجديدة التي تجد سندها التاريخي لدى أصحاب التفسير بالرأي، أن تقدّم أدوات مفهومية جديدة، تجعل من الآيات المنسوخة، لا سيما الداعية إلى العنف، تاريخا، إنْ كان مقدساً، فقد كفّ أن يكون شريعةً واجبة، وهو ما ينسجم ومقاصد الإسلام الكلية في نزعته الإنسانية. أما الإعلان أن هذا أو ذاك لا يمثل الإسلام، فإن التاريخ الإسلامي نفسه، الذي لا يشكل، في كل حال، استثناءً على هذا الصعيد، يبرهن تهافت هذا الإعلان، إذ فرضت الحركات المتطرفة، ذات التوجهات المختلفة، نفسها جزءاً من هذا التاريخ. وإذا كان من الصعب التوافق على منهجية واحدة في التفسير، في ظل حالة الانقسام المذهبي والسياسي الراهنة، فلا بأس في منهجيات تحقق الوحدة في إطار تعددي، على أن تأخذ بالاعتبار حقيقة وجود الآخر "المخالف في الملّة والاعتقاد"، المشارك في المواطنة، والإنسانية عموماً.
لم يعد بالإمكان البقاء في دوامة تحسين صورة الإسلام في كل مرحلة جديدة، بل المطلوب إعادة رسمها حضارياً. وإذا ما أراد المسلمون "استعادة القرآن من المتشددين"، عليهم أن يستعيدوا منهم، أولاً، تاريخهم، الذي تدور عجلته اليوم، وسيتحول لاحقاً تراثاً للأجيال المقبلة، بأن يركّزوا جهودهم على مسار بناء مجتمعات مُعَقلَنة، في ظل دول وضعية عقلانية. هنا فرس الرهان، وإلا استمرت "داعش"، وأشباهها درجةً ونوعاً، في ملء الفراغ الناجم عن قرون، خبت فيها روح الحضارة الإسلامية.


حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.