العرب وصحافة الاستقصاء

العرب وصحافة الاستقصاء

06 ديسمبر 2015

الاستقصاء تحول من البحث عن الحقيقة إلى خدمة المصالح(5سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
تُعدّ صحافة الاستقصاء عملاً إعلاميّاً مهمّا، يتأسّس على المتابعة الميدانيّة الدّقيقة للأشخاص والظّواهر، ويقتضي هذا المجال من مجالات العمل الصّحافي الكثير من الجرأة والأناة في الوقت نفسه، ويستلزم هذا الفنّ ركوب المخاطر ولزوم الحذر، وتجشّم المصاعب والتحلّي بالصّبر، وانتحاء نحو الموضوعيّة، والدقّة في طلب الحقيقة. فالمبادرة بكشف المستور، وارتياد مجاهل المسكوت عنه، والتّحقيق في وقائع عامّة وخاصّة، أمور جليلة لا تلين للصّحافيّ/ الباحث، إلاّ إذا كان مسكوناً بشرف المهنة، والرّغبة في خدمة المتلقّي، وإفادته بمعلومات أقرب إلى الصحّة منها إلى الإثارة، فيكون التّعامل مع الوقائع، أو الشخصيّات، مدار الاستقصاء مؤسَّساً على محاولة التّفكيك والفهم، قبل السّعي إلى إصدار المواقف الاستعجاليّة، أو الانطباعات القَبْليّة التي لا تفي، فيُفترض في الصحافيّ النّزيه السّعي إلى تمثّل الواقع والإحاطة به من كلّ جوانبه، لا السّعي إلى تزيينه أو تحريفه أو تحويره بالزّيادة أو النّقصان، على سبيل الدّعاية أو النّكاية. فمن المهمّ بمكان في العمل الصحافيّ الاستقصائيّ تفادي النّوازع الذاتيّة، من قبيل الأحكام الجاهزة، والخلفيّات الإيديولوجيّة، والانتماءات الفئويّة والغايات الانتخابيّة، والرّغبة في الشّهرة، واكتساب الألمعيّة على حساب الحقيقة، وعلى حساب الآخرين.
والملاحظ داخل الاجتماع العربي عموما، والتّونسي خصوصاً، في مرحلة الانتقال الدّيمقراطي بالأقطار الثّائرة، أنّ صحافة الاستقصاء شهدت حالة من الانتشار، والتطوّر في شتّى المنابر الإعلاميّة، وقد تحرّرت أقلام الصحافيّين والمدوّنين، وانطلقت أصواتهم المكتومة بعد سقوط الدّولة القامعة، وانصرفوا يقلّبون الماضي والحاضر، وينتقدون كلّ شيء، حتّى كأنْ لا شيء يعجبهم. وهذه الظّاهرة صحّية ومهمّة من النّاحيتين، العمرانيّة والتاريخيّة، فهي دالّة على اتّساع هامش حرّية التّعبير في الدّول الجديدة، ومُخْبِرة بنهاية زمن صحافة "الصّنصرة" و"التابوهات" اللاّمتناهية، وانخراط المواطن في دورة المساهمة في الشّأن العامّ والمشاركة في تمثّل الواقع ونقده وإعادة إنتاجه. والظّاهرة دالّة أيضاً على نهاية عصر احتكار الدّولة المعلومة، وهيمنة أجهزتها الرسميّة على الخبر ومصادره وقنوات نشره. ففي عالم الاستقصاء، يصبح الحاكم والمحكوم مدار نظر، والمواطن والمسؤول مناط بحثٍ، وكشف الحقيقة ورفع اللّبس غاية الإعلاميّ وديدنه. فهنا تمّحي الحدود، ويصبح الجدار المحيط ببعض الملفّات أو الشخصيّات زجاجيّاً، شفّافاً في مجتمع اختار العبور نحو الدّيمقراطيّة المعلوماتيّة، والقطع مع أسباب المنع والقمع ومصادرة الأقلام والأفكار.
وتبقى صحافة الاستقصاء في العالم العربي، على أهمّيتها، موضوع نقد، فالمتابع للمشهد
الإعلامي يتبيّن أنّ صحافة الوقائع، عندنا، ما زالت بعيدة عن الحِرفيّة، فكثيراً ما تعلّق الاستقصاء بتتبّع المشاهير من الوزراء، أو غيرهم، وغاب عن كثيرين أنّ ذلك يفترض أن يشمل المجالات جميعاً، من قبيل النّظر في سيرة المفسدين والمعذّبين وضحايا الاستبداد، وواقع مناطق الظلّ وواقع المهمّشين والمظلومين، وغيرهم كثيرون من الذين تجاهلهم الإعلام.
يُضاف إلى ذلك أنّ أغلب الملفّات التي يطرحها المشتغلون بصحافة الاستقصاء تفتقر إلى الحُجّية، وتنبني، في أغلب الأحيان، على تخميناتٍ، أو على أحكام مسبقة، فترى بعضهم محكوماً بخلفيّاته الإيديولوجيّة وميولاته السياسيّة في تقويم الشخصيّات والظّواهر، وترى سلوكهم مسكوناً بهاجس البروز ومنطق "خالف تُعرف"، فيجازف الواحد بابتداع الأخبار المثيرة، عسى أن يلفت إليه الانتباه، ويشدّ إليه القلوب. ويعمد آخرون إلى التّفتيش في عقائد النّاس، والتدخّل في حياتهم الشخصيّة والعائليّة، فينشرون غسيل هذا أو ذاك، على سبيل الرّغبة في الشّهرة، أو الرّغبة في التشفّي، ويتحوّل العمل الصّحافي، أحياناً، من الاستقصاء إلى القذف، وينتقل من البحث عن الحقيقة إلى البحث عن خدمة مطامح ذاتيّة أو مصالح ضيّقة، بل لا يتردّد بعض أشباه الإعلاميين في صناعة الإشاعة، وفي تشويه مفكّر لامع، أو فنّان مبدع أو سياسي ناجح، خدمة لأجندة حزبية أو مصالح طبقيّة أو طائفية محدّدة، لقاء دريهمات قليلة أو كثيرة... وفي المقابل، يسعى آخرون تحت يافطة الاستقصاء، وبقوّة اللسان والمال، إلى تبييض المفسدين، وإعادة إخراج المستبدّين في لبوس جديد، فيجري الحديث عن" المستبدّ العادل"، وعن "الدكتاتور الوطني"، وعن فوائد مركزة السلطة في يد الفرد أو الجماعة، ويجري تيئيس الناس من الثورة، وتنفيرهم من الديمقراطية، ومن أعلام المناضلين والمثقفين الذين كابدوا في سبيل نشر الحرية، وترسيخ المدنية وحقوق الإنسان في السياق العربي.
وفي الأثناء، تستحيل الحرّية فضاءً يستغلّه هؤلاء للقدح في سيرة شخصٍ ما، وفي تفكيك عرى أسرةٍ ما أو جماعةٍ ما أو مؤسسة ما، فيصبح الاستقصاء سيفاً مسلولاً على العامّة والخاصّة، يمسك به بارونات المال والإعلام، فتضيع الحقيقة في الزّحام، ويصبح الاستقصاء شيئاً آخر غير الموضوعيّة والنّزاهة وتقديم الخبر الصّحيح واستجلاء المعلومة، وهو ما يتعارض ونبل مهنة المتاعب.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.