اليمن 2015: انتهى العام ولم تنته الحرب

اليمن 2015: انتهى العام ولم تنته الحرب

31 ديسمبر 2015
+ الخط -
مخلّفاً مآسي لا تطاق، يمضي العام الأسوأ بالنسبة لليمنيين، ولم يدركوا دوافع الحرب الغاشمة التي لم تكن قطعاً بقرارهم، إذ لا يزال اليمنيون عاجزين عن تقييم مقدمات الأحداث السياسية المباغتة التي ما لبثت، بالتضافر مع عوامل محلية وإقليمية أخرى، أن تحولت إلى حرب مدمرة، قوّضت حياتهم وسلامهم ومستقبلهم. فعلى الرغم من وضوح النتائج السياسية لانقلاب الحوثيين وعلي عبدالله صالح على السلطة الانتقالية، وانجرار تحالفهما إلى مقامرة سياسية بإخضاع الجميع لمنطق القوة، كانت مؤشرات للتصاعد الدراماتيكي للعنف وإنضاج شروط الاقتتال الأهلي جلية، وإنْ سببت وتيرتها المتسارعة إرباكاً حقيقياً للجميع، إلا أن اليمنيين، في ظل غياب قوةٍ سياسيةٍ وطنية معبرة عنهم، تغافلوا عن فهم هذه المؤشرات، حتى مع إدراكهم أن كل الطرق والخيارات السياسية التي فرضتها عليهم أطراف الصراع لن تؤدي سوى إلى حربٍ بلا هدف ولا معنى.
بعد زحف الحوثيين والقوات التابعة لصالح إلى المدن اليمنية، ومحاولة إخضاعها لسلطتهم بالقوة، تبخّرت أحلام اليمنيين في أي حل سياسي، ينقذ البلاد من الهاوية، وأصبح واضحاً لديهم أن ما يحدث لم يعد تلويحاً بالقوة، بل هي الحرب يقودها نزق سياسي لتحالف سياسي عصبوي مسلح يريد ابتلاع السلطة، حتى لو قوّض ذلك أمن شعب اليمن وأمانه. مع نزقٍ سياسيٍّ كهذا، أصبحت الحرب أكثر قراراً واعياً تشكل في ذهنية الأطراف اليمنية، بعد أن مهدت للحرب واللجوء للخيار العسكري سبيلاً وحيداً لفرض شروطها على الآخرين، ولم يمض وقت حتى أنضج ذلك ظروف استدعاء تحالفات إقليمية بأجنداتها السياسية المتناقضة للصراع في اليمن، على حساب كل ما هو يمني، وفي مقدمتها حياة الناس ومستقبل دولتهم.
بعملية "عاصفة الحزم" التي انطلقت في مارس/آذار الماضي، دشن التدخل العسكري لقوات التحالف العربي، بقيادة المملكة العربية السعودية، نوعاً جديداً من الحروب، ليس في اليمن فقط وإنما في المنطقة كلها؛ إذ أخذ نمط الحرب في اليمن توليفة مركبة من الضغائن التاريخية والمذهبية، تغذّت على الأزمات السياسية اليمنية وصراع الأطراف الخارجية على مناطق نفوذ إقليمية ممكنة في اليمن، ليصير البلد الضعيف والمتهالك ساحة نموذجيةً لاختبار التفوق العسكري، بينما وجد اليمنيون الذين تمنوا أن يظلوا بعيداً عن حرب الأقوياء المحتقنين أنفسهم وجهاً لوجه أمام أسوأ مخاوفهم، وقد تكثفت جميعها خلال عام من الحرب، و"عاصفة الحزم" والخيبات الوطنية، والكثير جداً من الضحايا والخسارات؛ وبقدر قلة حيلتهم تحت رحى حرب طاحنة، صارت الحرب الحقيقة الوحيدة التي عرفها اليمنيون جيداً في عام 2015، فالحرب التي لم تنته بعد، ولا يمكن توقع نهايتها، حصدت حتى الآن أكثر من ستة آلاف قتيل وثلاثة ملايين نازح، إضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية، ما جعل اليمنيين عاجزين حتى عن التأمل في مأساتهم، والإجابة على السؤال البسيط: "لماذا حدث كل ما حدث؟".
التأمل في المأساة الجماعية التي تخلفها الحروب الداخلية والإقليمية ينضج الشعوب التي لا تريد
تكرار أقدارها المظلمة. لذا، يحتاج اليمنيون إلى فسحة من الزمن، لالتقاط أنفاسهم، والتأمل في مغزى هذه الحرب ومظاهرها، ليس فقط في كلفتها المستمرة في شتى مناحي الحياة، بل والتأمل أيضاً في ما تخلفه من احتقانات اجتماعية، لم يعرفها اليمنيون سابقاً؛ فكل العداوات التاريخية والصراعات الجهوية والمناطقية التي رحلتها سنوات اللا سلم واللا حرب ما لبثت أن طفت، بشكل صادم، لتعتدي حتى على العلاقات الإنسانية بين اليمنيين، وتنامي العداوة والكراهية والميل إلى الانتقام وتصفية الخصومات الشخصية، بينما أطلق غياب سلطة سياسية العنان ليمنيين كثيرين لإلحاق الأذى بالآخرين، غير أن اللافت أكثر تنامي الأفكار اليمينية المتشددة، ليس فقط التي تغذي الجماعات الدينية المتشددة، وإنما التي تقوّض الآخر وتسلبه إنسانيته، وبالتالي، حرمة ماله ودم وحقه في الحياة، وتخندق الأفكار اليمينية في مقاربتها الحرب، وفي رؤيتها للعالم، حتى أنها أطلقت الوحوش المطمورة في أعماق يمنيين كثيرين، بما فيهم مدنيون، لتعبر عن إرادة مجنونةٍ لإسكات أي صوتٍ لا يهلل لمنطقها القاصر للصراع، ولا يصطف مع انتماءاتها المذهبية والمناطقية، وليصبح التعطش للهدم والقتل وإلغاء كل مختلف اللغة المتداولة، اليوم، بين قطاع واسع من اليمنيين، وقد تحولوا إلى جماعاتٍ عصبوية، على اختلاف تموضع كل جماعة واختلاف الاتهامات الموجهة للآخر أو ما تمنحه من تصفيق وصكوك وطنية على المتعصبين داخلها.
في عام الحرب، واجه اليمنيون تحدي النجاة من جنون الحرب وكلفتها، وتفرقوا في أمور كثيرة، على الرغم من مصير الموت والخسارات الذي يجمعهم، ويواجهون، اليوم، علاوة على ذلك تحدي النجاة من تبعات اجتماعية ونفسية، تؤدي إلى الهلاك والقتل في منطق العصبويات الرائج. وفي المقابل، تحرص فئة الكهنة وأسياد الحرب، على اختلاف تموضعاتهم السياسية والمذهبية والمناطقية، على تغذية منطقها العصبوي وتشددها السياسي داخل المجتمع اليمني، وتقديم من يعارضها، أو لا يندرج في نطاق جمهورها المؤيد، قرابين وطنية. في واقع قاسٍ ومنفلت كهذا، تصبح إدانة المواقف السياسية أطراف الصراع التي خاضت الحرب، أو المهيأة لها، سبباً كافياً للتعرض إلى النفي النفسي والأذى من العصبويين الجدد المتفننة في اختراع أشكال متعددة للتدمير.
بعد فترة انتقالية سيئة وعام حرب طاحنة، يدرك يمنيون كثيرون، اليوم، أن أسياد الحرب، مهما بدوا متحمسين لخوضها حتى النهاية، هم أكثر اليمنيين بعداً عن الحرب التي اخترعوها، فهم يديرونها من عواصم بلدان أخرى، ومهما اختلفوا حول خيارات الحسم العسكري، أو حول آفاق تسوية سياسية مرضية، فستفرض تسوية في الأخير، يكون أسياد الحرب أكثر المستفيدين منها، بدءاً بمنحهم حصانة من الجرائم التي ارتبكوها في حق اليمنيين، في حين يظل اليمنيون ضحايا، سواء أهدافاً سهلة للموت في الحرب، أو ضحايا بلا إنصاف بعدها.
إن تأمل المقدمات الخاطئة، سواء التي أنتجت الحرب، أو عملت، أسباباً غير مباشرة في إنتاجها، تحتم على اليمنيين، اليوم، إدانة منطق الحرب والاحتكام للقوة، وبالتالي، وقبل أي شيء آخر، إدانة القوى السياسية والمليشاوية التي أجرمت في حق اليمنيين، تحت "ذرائع وطنية" متباينة وباهتة، من دون استثناء، والتمسك بما تبقى من مشترك وطني، والقبول ببعضهم، من دون تحيزات مناطقية أو جهوية أو مذهبية أو أيديولوجية؛ وعلى اليمنيين كذلك التأمل ملياً في عام سيئ بما يكفي لتأمل الخسارة.

97D578E8-10ED-4220-B7E6-97386BBC5882
بشرى المقطري

كاتبة وناشطة يمنية